فوجئت الأوساط السورية والعربية، في العام 1965، بالقبض على كامل أمين ثابت، الذي كاد أن يتولى منصب رئيس الوزراء في سوريا، واتهامه بالتجسس لمصلحة إسرائيل على مدار 4 سنوات، لتُكشف قصة إيلي كوهين اليهودي الذي هاجرت أسرته إلى مدينة الاسكندرية المصرية وولد فيها، قبل أن يعود إلى سوريا، حيث أقام علاقات وثيقة مع نخبة المجتمع السياسي والعسكري، استغلها في التجسس لمصلحة إسرائيل، ونُفذ فيه حكم الإعدام في العام 1965.
لم تكن تلك القصة الوحيدة لشخصيات يهودية تدين بالولاء لإسرائيل، وتعيش في مجتمعات عربية بهوية إسلامية، كي تنسج شبكة من العلاقات تُمكنها من ممارسة دورها التجسسي.
وتلك الاستراتيجية ليست جديدة ولكن اتبعتها دولة الاحتلال حتى قبل تأسيسها واحتلال أراضي فلسطين، فما كان يُمكن زرع كيان غاصب في الأراضي الفلسطينية والعربية إلا بمساعدة من داخل أروقة السلطة القائمة في ذلك الحين.
وأبرز مثال على تلك الاستراتيجية طائفة "الدونمة" التي ظهرت في القرن الـ17 بمدينة إزمير التركية، ومهدت الطريق للحركة الصهيونية وكانت أول من دعا إلى إقامة دولة لليهود عاصمتها القدس.
وذكر موقع "الجزيرة" في تقرير عن تلك الطائفة أنها سيطرت على الاقتصاد والإعلام في الدولة العثمانية، ونشرت الأفكار الهدامة في المجتمع التركي، وعملت على الإطاحة بدولة الخلافة.
وأتت تسميتها "الدونمة" من اللفظ التركي "دونمِك" (Dönmek)، الذي يعني العودة أو الرجوع، إذ أن أتباع هذه الفرقة تظاهروا بترك دينهم والتحول إلى الإسلام، فأطلق عليهم الناس هذا الاسم للدلالة على الهداية بالعودة للدين الحق، أو حتى لأن هناك من اعتبرهم ليسوا مسلمين حقيقيين؛ مما يعني "الارتداد".
ويطلق عليها أيضا اسم "السبتية" نسبة إلى مؤسسها سبتاي زيفي، الذي وضع أصول هذا المذهب وقواعده وفروعه، وهو ولد لأبوين يهوديين هاجرا من إسبانيا إثر الاضطهاد الديني ومحاكم التفتيش، التي قامت في أواخر القرن الـ15 بعد سقوط آخر معقل للدولة الإسلامية في الأندلس.
وكان سبتاي الابن الأصغر بين 3 أولاد لموردخاي زيفي، وكان تاجرا ميسورا، امتهن أولاده التجارة سوى سبتاي الذي توجه منذ صغره إلى الدراسة الدينية.
وكان شغوفا بمطالعة الكتب الدينية، فقرأ التوراة والتلمود واستوعبهما، إلى أن أصبح حاخاما، واستغلّ بعض النصوص الدينية العبرانية التي تبشر بظهور مسيح جديد يحكم العالم، وادعى عام 1648 أنه المسيح المنتظر الذي يتخذ من القدس عاصمة للدولة اليهودية، وكان بلغ حينها 22 عاما، ولقب نفسه بـ "ابن الله البكر" و "الابن الوحيد الأول ليهوه"، وأباح الكثير من المحظورات التي كانت ممنوعة وفقا للشريعة اليهودية، فأعلن الحبر جوزيف سكابا رئيس الطائفة اليهودية في إزمير، أن سبتاي خارج عن الشريعة اليهودية، وحكم الحاخامات عليه بالإعدام، فرحل إلى اسطنبول، وبدأ يبشر اليهود بالخلاص، فصدقه عدد كبير منهم، وانهالت عليه الوفود من إزمير ورودس وبروسيا وصوفيا وأدرنة واليونان وألمانيا، وأطلق عليه اسم "ملك الملوك".
واستغل سبتاي الوضع العام لليهود الذين عانوا حياة التشرذم والشتات والاضطهاد، فحاول كسب تأييدهم في جميع أنحاء العالم، مدعيا أنه سيثأر لليهود من كل أعدائهم، وأنه سوف يحكم العالم من دولته، ودغدغت دعوته أحلام اليهود في جمع شتاتهم في القدس، ومنها إحياء معبد سليمان، فاحتفل اليهود في شوارع هامبورغ وأمستردام وبولندا مستبشرين بظهور المسيح وقرب الخلاص.
ولما تعاظم نفوذه وسط اليهود، بعث رجال الدين والحاخامات اليهود في إزمير، رسائل إلى الدولة العثمانية للتحذير منه، ففر هو وأتباعه ووصل إلى أثينا، قبل أن يعود مجددا إلى إزمير ومنها إلى إسطنبول.
وزار القدس عام 1663، وأعلن منها قدوم الخلاص على يديه، وآمن به رئيس الطائفة اليهودية في مصر رفائيل يوسف جلبي، وأغدق عليه الأموال لمساعدة أهالي القدس، كما آمن به في غزة ناثان هاليفي، وهو يهودي من أصل ألماني، وأصبح يسمي نفسه "رسول سبتاي" إلى الناس.
واشتد الصراع بين سبتاي وحاخامات اليهود إلى أن قام الحاخام نحيما كوهين، بإبلاغ السلطان العثماني أن سبتاي يقوم بمحاولة تمرد على الدولة العثمانية وإقامة دولة لليهود على حسابها، فسُجن وحُكم عليه بالإعدام بتهمة ادعاء النبوة، فسعى سبتاي لإنقاذ نفسه ومريديه فأعلن إسلامه في 15 سبتمبر 1666، فعفى عنه السلطان محمد الرابع، وعيّنه رئيس الحجاب في القصر السلطاني، وغير سبتاي اسمه إلى "محمد عزيز أفندي" ولبس الجبة والعمامة، فتحول سبتاي من مسيح مزيف إلى مسلم مزيف.
ويُشاع أن سبتاي لم يكن يتقن اللغة التركية، فقام طبيب السلطان مصطفى حياتي، الذي كان يهوديا سابقا، بالترجمة بين لجنة المحاكمة وسبتاي الذي كان يتكلم الإسبانية، وحينما رأى الطبيب أن المحاكمة تسير باتجاه إدانة سبتاي وقتله، اقترح عليه أن يعلن إسلامه، ففعل.
وأصيب كثير من اليهود بالإحباط لاعتناق مخلصهم الإسلام بدل تحقيقه الحلم اليهودي المنشود، فأرسل سبتاي توضيحا لهم بأن إسلامه شكلي، وأعلن أن "كيان سبتاي القديم صعد إلى السماء، وبأمر من يهوه ترك ملكا يستمر في كونه المسيح، ولكن تحت جبة وعمامة"، وأشاع أتباعه أنه عرج إلى السماء، وحل محله بأمر الله مسيح يرتدي ثوب مسلم.
وبناء على موافقة الحكومة العثمانية على طلب سبتاي القيام بدعوة اليهود إلى الإسلام، أدخل سبتاي عددا كبيرا منهم إلى الإسلام مبطنين باليهودية، فكانوا يؤدون الشعائر الدينية الإسلامية ظاهريا، كما غيروا أسماءهم الرسمية، في حين احتفظ كل واحد منهم باسم يهودي خاص، واستمروا في المحافظة على عاداتهم الخاصة من لباس وأعياد وشعائر تقام باللغة الإسبانية، كما كانت لهم مدارس ومقابر خاصة بهم.
ولما بدأ بعض أركان الدولة العثمانية ينتبه إلى الخطر القادم، بعدما كثرت التقارير التي كانت تُرفع من إدارة الأمن العثماني حول الأفكار الخطيرة التي كان يحملها هؤلاء وكيدهم للإسلام، ولما بات واضحا بعد أكثر من 10 سنوات، أن إسلام "عزيز أفندي" إنما كان تقية، والهدف منه ضرب الإسلام من الداخل، فقُبض عليه مع بعض أتباعه ونُفوا إلى ألبانيا، وبقي هناك 5 سنوات يتواصل مع أتباعه عن بعد بالرسائل أو المندوبين حتى توفي في سبتمبر من العام 1675، لتنقسم طائفته بعد ذلك إلى 3 فرق، منها "اليعقوبيين" نسبة إلى شقيق زوجته يعقوب جلبي، والذين تولت جماعة منهم مناصب مهمة في الدولة العثمانية، وفرقة "القبانجية" التي كان لها نشاط ملحوظ في المراكز الأوروبية بمختلف النواحي الصناعية والتجارية وأعمال المصارف، وأولوا اهتماما كبيرا بمجال التعليم، وأنشؤوا المدارس لتعليم أولادهم، كما اندسوا في خلايا حزب الاتحاد والترقي، وأدوا دورا كبيرا في انقلاب حزب "تركيا الفتاة"، الذي أسقط السلطان عبد الحميد عن عرشه.
وكان يهود الدونمة أصحاب مهن وخبرة في شؤون المال والتجارة، كما تلقوا الدعم المالي من الشركات اليهودية الأوروبية والأميركية، فتمتعوا بهيمنة اقتصادية في الدولة العثمانية، وشكلوا قوة اقتصادية ضاغطة في اتجاه تحقيق أهدافهم ومساعيهم، وبرزت منهم شخصيات لعبت دورا أساسيا في الاقتصاد التركي، وعلى رأسهم محمد جاويد بيك، الذي كان وزيرا للمالية في الدولة العثمانية، وكان يعقد الصفقات التجارية ويوفر المال اللازم لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، ومارس ضغوطا عديدة على الدولة العثمانية من أجل تحقيق أهداف اليهود، كما كان لموشيه الآتيني دور بارز في الاقتصاد، وكان متحكما في تجارة التبغ والخمر والأفيون، وسيطر على العديد من الشركات في الدولة.
كما شكل يهود الدونمة قوة سياسية ضاربة في عمق الدولة العثمانية، أدت إلى ضعفها ثم انهيارها، وقد شغل العديد منهم مناصب سياسية رفيعة، عملوا من خلالها على تقويض الحكم العثماني، وثبتوا نفوذهم السياسي من خلال انخراطهم في الحركات التي كانت تسعى للإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني، وإقامة دولة علمانية على أنقاض الخلافة العثمانية، مثل: حركة "تركيا الفتاة"، و"جمعية الاتحاد والترقي" التي عزلت السلطان عبد الحميد، وكانت الدونمة العقل المدبر والممول لنشاطاتها.
كما أسسوا المحافل الماسونية داخل الدولة العثمانية، وكانوا أبرز رجالها، واستخدموا شعارات خادعة مثل الحرية ومكافحة الاستبداد ونشر الديمقراطية لاجتذاب الناس وترويج الأفكار الهدامة، وشكلت هذه المحافل مراكز قوة في الدولة، وخرج منها الوزراء والنواب وقادة الجيش وكبار الموظفين والمسؤولين، الذين كانوا خاضعين لتأثير "يهود الدونمة".
ومثل مدحت باشا، وهو ماسوني من يهود الدونمة، نموذجا للكيد بالدولة من الداخل، فقد كان واليا على بغداد عام 1868، وأصبح وزيرا للعدل في وزارة محمد رشدي باشا، وترقى في المناصب حتى أصبح الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، واستطاع الإطاحة بالسلطان عبد العزيز بمساعدة بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني حين تبين للسلطان علاقة مدحت باشا المشبوهة بإنجلترا، أقاله وحُكم عليه بالإعدام للخيانة العظمى، إلا أن التنفيذ اقتصر على النفي لتدخل السفراء الأجانب، وهذه الحادثة استغلتها اليهودية العالمية للتأليب على السلطان.
وساهم يهود الدونمة في ثورة 1908، حيث تخفوا في زي الجنود، وتسللوا في صفوف الجيش، وبدؤوا بتحريضهم للقيام بثورة على السلطان، وكان إيمانويل قره صو (أحد الدونمة) عضوا بارزا في جمعية الاتحاد والترقي، وكان أحد أفراد الوفد الثلاثة الذين أبلغوا السلطان عبد الحميد خبر عزله عام 1909.
وكان سجن السلطان بعد ذلك في منزل موشيه الأتيني من الدونمة أيضا، ولا يخفى دور وزير المالية محمد جاويد بيك، الذي كان أحد أبرز رجال جمعية الاتحاد والترقي في الكيد للدولة.
وفي عام 1923 أعلنت الجمعية الوطنية التركية قيام الجمهورية في تركيا، وانتخبت مصطفى كمال أتاتورك، وكان يهود الدونمة من أشد مسانديه في الوصول إلى الحكم.
وسيطر "يهود الدونمة" على الصحف الكبرى والمجلات في الدولة العثمانية لإسقاط الخلافة ومع ظهور الجمهورية الحديثة، زادت السيطرة اليهودية على الإعلام، فامتلكت أكثر المجلات والصحف انتشارا مثل مؤسسة جريدة "حريت"، التي أسسها أحد يهود الدونمة، وهي الجريدة الأكثر انتشارا على مستوى تركيا، وقد وصل توزيعها إلى مليون نسخة يوميا، كما تمكنت "الدونمة" من خلال القنوات الإعلامية التي تمتلكها أو تديرها، من بث الفكر الغربي والماركسي والدعوة إلى السفور والانحلال الخلقي، وإذكاء روح القومية التركية، وتشويه صورة الدولة العثمانية، والترويج للدولة التركية العلمانية، وعملوا على تحسين صورة اليهود وبث الكراهية للعرب.
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com