أولًا: رفع علم فلسطين داخل وخارج الملاعب، سواء من جانب قطاعات عريضة من الجمهور الحاضر في المدرجات، أو من جانب بعض اللاعبين أثناء أو عقب أداء بعض هذه المباريات، أو من جانب الجماهير الغفيرة المحتشدة لمشاهدة المباريات أثناء بثها عبر شاشات عملاقة اكتظت بها العديد من الميادين في قطر. وقد لوحظ أن هذا السلوك العفوي لم يقتصر على العرب، جمهورًا ولاعبين، وإنما مارسه كثير من غير العرب، جمهورًا ولاعبين أيضًا، ما يدل على درجة الاهتمام الذي تحظى به القضية الفلسطينية من جانب ملايين البشر من مختلف أنحاء العالم.
اقرأ ايضا: هل تتحول القمم العربية والإسلامية إلى سرادقات للعزاء؟
ثانيًا: شعور المراسلين الذين أوفدتهم وسائل الإعلام الإسرائيلية لتغطية هذا الحدث العالمي الكبير بالعزلة التامة، وبحجم الكراهية التي تضمرها شعوب الدول العربية لدولة إسرائيل بسبب سياساتها الوحشية والعنصرية تجاه الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الشعوب التي أبرمت حكوماتها مع إسرائيل مؤخرًا اتفاقيات لتطبيع العلاقات. ولأن هؤلاء المراسلين كانوا يتصورون أن الفرصة سنحت لهم أخيرًا لتغطية حدث عالمي تستضيفه دولة عربية ترتبط مع إسرائيل بعلاقات ودية، حتى ولو لم تكن علاقة رسمية، لإثبات أن الشعوب ترحب بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، فلا شك أنهم أصيبوا بصدمة شديدة حين تبين لهم بوضوح تام أن العكس هو الصحيح، وأن الجماهير العربية التي حضرت من مختلف الأقطار العربية إلى الدوحة لمتابعة هذا الحدث الكبير، بما في ذلك الشعب القطري نفسه، ترفض التعامل مع أي إسرائيلي، وترى في إسرائيل دولة احتلال استيطاني لأرض هي ملك الشعب الفلسطيني الذي تمارس ضده كافة صنوف الاضطهاد والتفرقة العنصرية وتحرمه من أبسط حقوقه الإنسانية، وأن الشعور بالكراهية تجاه كل ما هو إسرائيلي هو شعور عام لدى كل الجماهير العربية الحاضرة في الدوحة، يستوي في ذلك شعوب الدول التي ترتبط حكوماتها بمعاهدات سلام رسمية مع إسرائيل أم لا. وقد أظهرت العديد من مقاطع الفيديو التي بثت عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن معظم من التقى بهم هؤلاء المراسلون من المواطنين العرب رفضوا الحديث إليهم لا لشيء إلا لأنهم إسرائيليون أي لأنهم ينتمون إلى دولة لا يعترفون بوجودها أصلًا ويرون أنها تفتقر إلى أبسط قواعد الشرعية، لأنها قامت على اغتصاب أرض هي ملك لشعب لم يرتكب أي إساءة أو جريمة في حق اليهود تبرر ما يتعرض له حَالِيًّا من انتهاكات وتنكر لحقوقه ولهويته الفلسطينية.
ثالثًا: التفاف الجماهير العربية التي سافرت إلى قطر لتشجيع فرقها الوطنية حول كافة الفرق العربية المشاركة في هذه النسخة من مسابقة كأس العالم دون استثناء، بصرف النظر عن لون العلم الذي يلعب الفريق المشارك تحت رايته. ففي كل المرات التي لعب فيها أي فريق عربي، سواء كان قَطَرِيًّا أم تُونِسِيًّا أم مَغْرِبِيًّا أم سُعُودِيًّا، كانت الجماهير العربية المتواجدة في قطر، أَيًّا كانت الدولة التي تحمل جنسيتها، تحتشد عن بكرة أبيها لمؤازرة هذا الفريق من داخل الملاعب وتقوم بتشجيعه بنفس الحماس التي تؤازر به فرقها الوطنية.
رابعًا: التفاف الشعوب العربية التي تتابع هذه المباريات عن بعد، بما في ذلك شعوب الدول التي ليس لديها فرق مشاركة في المسابقة، حول أي فريق عربي يخوض المباراة، ودون تمييز بين أي فريق عربي وآخر. وقد نقلت وسائل إعلام عديدة ردود أفعال هذه الشعوب العربية أثناء متابعتها لمباريات الفرق العربية المشاركة، وسجلت كيف كانت هذه الشعوب تعبر عن مشاعرها المفعمة بالفرح حين يسجل أحد اللاعبين العرب هدفًا أو حين يحقق أحد الفرق العربية فوزًا، وكيف كانت تنتابها مشاعر مفعمة بالقلق والحزن حين يدخل مرماها هدف أو حين تخسر المباراة.
لا شك في أن لهذه المشاهد دلالات عميقة وذات مغزى، فالإصرار على رفع العلم الفلسطيني وعلى رفض التعامل مع مندوبي الإعلام الإسرائيلي، على النحو الذي أسلفنا، هي إشارات واضحة تؤكد على أن الشعوب العربية ما تزال ترى أن القضية الفلسطينية هي قضيتها المركزية، وأن إسرائيل كانت وما تزال وستظل هي عدوها الرئيسي، وأن إقدام عدد كبير من الحكومات العربية على إبرام معاهدات سلام وتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، أَيًّا كانت أسبابها في ذلك، هو أمر غير مقبول وغير مرحب به من جانب تلك الشعوب التي ما تزال ترى في إسرائيل مصدر التهديد الرئيسي للأمة العربية بأسرها وليس للشعب الفلسطيني وحده، ما يعكس وجود فجوة حقيقية بين موقف الحكومات وموقف الشعوب العربية من هذه القضية التي تعتبرها وجودية ومصيرية. والتفاف الجماهير العربية حول فرق كرة القدم العربية بهذه الطريقة، يعكس شعورًا دفينًا لدى الشعوب العربية أنها تنتمي جميعًا إلى أمة واحدة ترتبط فيما بينها ليس بروابط تاريخية وثقافية قوية يستحيل فصمها فحسب ولكن أيضًا بوحدة المصير، وبالتالي فإن أي إنجاز يحققه أي فريق عربي هو إنجاز لكل العرب، وأي خسارة تلحق بأحدها تعد خسارة لها جميعًا. بعبارة أخرى، يمكن القول إن هذه المشاهد تدل على أن الشعوب العربية تشعر أن مصالحها مترابطة ومتكاملة وأن الطابع الصراعي الذي يميز العلاقات القائمة حَالِيًّا بين الدول والحكومات العربية، يعكس خللًا في نخب حاكمة لا تمثل شعوبها ولا تعبر عن مصالحها، بأكثر مما يعكس وجود خلافات في المصالح بين الشعوب العربية.
لقد ظهرت كتابات عربية عديدة في الآونة الأخير توحي بتراجع الدعم العربي للقضية الفلسطينية وانصراف الشعوب العربية إلى الاهتمام بأوضاعها الداخلية المتعثرة، كما توحي في الوقت نفسه بتراجع الفكر القومي العربي والاصطفاف من جديد وراء الدولة القُطرية التي عاد إليها الاعتبار، بل والاصطفاف أحيانًا وراء انتماءات طائفية وعرقية على حساب المشاعر الوطنية والقومية. وهذه مقولة قد تبدو في ظاهرها صحيحة، لكنها في جوهرها أقرب ما تكون إلى حق يراد به باطل. صحيح أن الأوضاع داخل معظم الأقطار العربية ليست على ما يرام، بل إن بعضها يعاني من صراعات داخلية وصلت إلى حد الحروب الأهلية التي لم تخلف سوى الدمار والتشرد لملايين المواطنين، ومن ثم فمن الطبيعي أن تنكفئ العديد من الشعوب العربية على نفسها وأن تتفرغ لترتيب أوضاعها الداخلية والبحث عن حلول للمشكلات الكثيرة التي تعاني منها، غير أن هذه المشكلات هي في الواقع عرض لمرض مزمن تسبب فيه عجز وعدم كفاءة الحكومات العربية، ما أدى إلى عدم قدرتها على الاضطلاع بواجباتها الأساسية، ومن ثم فلا علاقة للقضية الفلسطينية أو للقومية العربية بهذه المشكلات. بل إن العكس قد يكون هو الصحيح. ذلك أن تخلي معظم الحكومات العربية عن القضية الفلسطينية، بسبب ضغوط خارجية واضحة، وابتعادها عن التمسك بعروبتها وبانتمائها القومي، نتيجة انتشار وتغلغل الأطروحات الدينية والطائفية، كان من بين أهم الأسباب التي أدت إلى تفاقم تلك المشكلات والصراعات الداخلية.
لقد أثبتت المشاهد التي تجلت بوضوح إبان مباريات كأس العالم في قطر أن الشعوب العربية ما تزال تلتف حول القضية الفلسطينية وعلى استعداد لدعمها بكل ما تملك من وسائل، كما أثبتت أن هذه الشعوب ما تزال تؤمن بأنها جميعًا تنتمي لأمة واحدة، وبأن الإيمان بعدالة القضية وبعروبة الأمة هما وجهان لعملة واحدة يصعب الفصل بينهما. المشكلة أن الشعوب العربية لا تستطيع أن تعبر عن مشاعرها الحقيقية إلا عندما تتاح لها الفرصة للتعبير عن هذه المشاعر، ولأن هذه الفرصة ليست متاحة داخل أوطان يحكمها الخوف، فقد كان من الضروري أن تبحث عنها خارجها، وهذا هو ما حدث ويحدث في الدوحة حَالِيًّا بمناسبة تنظيمها لبطولة كأس العالم في كرة القدم.
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com