يعتبر الاتحاد الأوروبي الممول الرئيس للفلسطينيين بالإضافة إلى الولايات المتحدة، حيث يساهم الاتحاد الأوروبي، اليوم، بحوالي ٣٠٠ مليون يورو سنويا، يذهب نصفها تقريباً لدعم ميزانية السلطة الفلسطينية، بينما يذهب ثلثها لدعم ميزانية وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، ويخصص حوالي ٥٪ منها لتمويل مؤسسات المجتمع المدني في فلسطين، بحيث يذهب معظم ذلك القسط إلى مؤسسات حقوق الإنسان. بعد أقل من شهرين على توقيع اتفاق أوسلو، عقد في واشنطن مؤتمر للدول المانحة، بهدف تقديم مساعدات مالية وعينية لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بعد تأسيسها، حيث اتفق المشاركون وعلى رأسهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على أن أهداف هذه المساعدات الموجهة إلى الشعب الفلسطيني تأتي لدعم عملية السلام. فالمساعدات التي تقدم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تحديداً تعمل في الأساس لتحقيق هدف سياسي يرتبط بتحقيق عملية السلام على أساس حل الدولتين، والذي لم يتغير على الرغم من رفض إسرائيل تنفيذ اتفاق أوسلو، وهو الاتفاق المؤقت والذي وضع سقفاً زمنياً محدداً بخمس سنوات لتنفيذ هذا المشروع السلمي.
لم يضع الاتحاد الأوروبي في البداية، أي منذ العام ١٩٩٤، شروطاً على المؤسسات الأهلية التي تحصل على منح منه، بخلاف تلك التي تتعلق بالجوانب الفنية والإدارية والقانونية والمتابعة المالية، وتنسجم مع معايير النزاهة والشفافية. بعد أحداث الحادي عشر من أيلول وانفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية مطلع الألفية الجديدة بدأ الاتحاد الأوروبي يثير قضية شروط تتعلق بـ"الإرهاب" دون أن يضع ذلك في اتفاقيات التمويل مع المؤسسات الفلسطينية، مفتتحاً بذلك عهد التمويل المشروط للفلسطينيين. ويضع الاتحاد الأوروبي على السلطة الفلسطينية شروطاً للسماح بتلقي التمويل من قبلها، بدءا بتلك التي تتعلق بقضية مخصصات الأسرى المالية، وانتهاءً بقضية مراجعة مناهج التعليم الفلسطينية، والتي تراجع الاتحاد الأوروبي عنها منتصف العام الجاري، بعد تنازله عن هذا الشرط. كما وضع الاتحاد الأوروبي شرطاً على المؤسسات الأهلية الفلسطينية يلزمها من خلاله بتوقيع وثيقة "نبذ الإرهاب"، ما يفسر رفض العديد من المؤسسات الفلسطينية الحصول على تمويل من الاتحاد الأوروبي. وفي ظل إصرار الاتحاد الأوروبي على فرض مزيدٍ من الشروط المسيسة باستخدام تمويل المؤسسات الأهلية في فلسطين، أضاف بنداً جديداً يتعلق بضرورة عدم حصول المؤسسات على التمويل أو حتى الاستفادة منه إذا جاء من قبل جهات ورد ذكرها في قوائمه التقييدية، والتي تضم حركة حماس والجهاد والجبهة الشعبية وكتائب شهداء الأقصى وكتائب القسام ومؤسسة الأقصى وتنظيم أبو نضال. وبات هذا القيد المسيس يمس حرمة النضال الوطني الفلسطيني.
تتناقض الشروط التي وضعها الاتحاد الأوروبي وتسعى دول أوروبية أيضاً إلى فرضها على المؤسسات الأهلية الفلسطينية، استرشاداً بموقف الاتحاد الأوروبي، للحصول على تمويل مع القواعد الخاصة بمدونة السلوك للمنظمات الأهلية الفلسطينية ومع القانون الفلسطيني، الذي يرفض صراحة التمويل المشروط، حسب نص مواد قانون الجمعيات الخيرية والمنظمات الأهلية لعام ٢٠٠٠، ومع الموقف الرسمي للمنظمة والسلطة، ومعظم المؤسسات الأهلية. ورفضت ١٣٥ مؤسسة فلسطينية هذا الشرط الأخير. إن تلك السياسة تعد تدخلاً سياسياً سافراً في الشأن الفلسطيني، ويشجع سلطات الاحتلال على تماديها في انتهاك سيادة الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة، كما جرى مؤخراً عندما وصمت مؤسسات أهلية فلسطينية بالإرهاب.
يركز تمويل الاتحاد الأوروبي في فلسطين على مشاريع تتعلق بحقوق الإنسان، إلا أن الاتحاد يراعي في تمويله لتلك المشاريع عدم تضاربها مع السياسة الإسرائيلية والاصطدام معها، بحجة تبنيه لأهداف غير مسيسة في الأراضي الفلسطينية. وتتعلق أهم المشاريع المدعومة خارجياً في إطار المؤسسات الأهلية الفلسطينية بالإغاثة الإنسانية وتعزيز مفاهيم الديمقراطية والحكم الرشيد والشراكة السياسية، في دولة تعاني من الاحتلال وشعب يتعرض بصورة يومية لممارساته غير الإنسانية طوال عقود ممتدة. وتزيد نسبة الدعم الغربي لهذا النوع من المشاريع عن الدعم الموجه لقطاعات الزراعة والصناعة، ما يفسر عدم مساهمته في تحقيق تنمية إقتصادية في فلسطين. كما يدعم الاتحاد ودول أوروبية السلطة الفلسطينية من خلال برامج تعمل على تمكين مؤسساتها الأمنية والقضائية وغيرها. إلا إن ذلك لا ينفي أيضاً الدعم الغربي لمشاريع تتعلق بدعم صمود الفلسطينيين في القدس وحول جدار الفصل العنصري. إن ذلك الدعم الغربي يعمل بقصد أو بغير قصد على تأقلم الفلسطينيين مع الوضع القائم، أي التعايش تحت الاحتلال.
ازداد دعم الاتحاد الأوروبي للفلسطينيين عبر الحقب المختلفة فبلغ في المتوسط سنوياً حوالي ٨٨ مليون يورو في الفترة ما بين ١٩٩٥ و١٩٩٩، وبات حوالي ٢٥٠ مليون يورو ما بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٥، وأصبح، اليوم، ٣٠٠ مليون يورو. وازداد اعتماد منظمات المجتمع المدني على التمويل الخارجي بشكل لافت بعد العام ١٩٩٤، فأصبحت تلك المنظمات تعتمد في تمويلها على المانحين خصوصاً على التمويل الغربي. فارتفعت نسبة المنظمات الأهلية التي تحصل على تمويل خارجي من ٣٨.٩٪ في العام ٢٠٠٠ إلى ٤٦.٨٪ في العام ٢٠٠٨ وتعدت الـ٦٠٪ خلال السنوات الأخيرة. وانخفضت نسبة تمويل السلطة لهذا النوع من المؤسسات من ٢٩.٢٪ العام ٢٠٠٠ إلى ١٣.٤٪ العام ٢٠٠٦، وانحدرت إلى أقل من ١٠٪ الآن. إن اعتماد منظمات المجتمع المدني على التمويل الغربي الممثل بتمويل الاتحاد الأوروبي أو دول أوروبية منفردة يفقدها القدرة على التحرر من الأجندة السياسية الخاصة بتلك الدول، والتي تعمل حسب مصالحها، وليس بالضرورة لصالح الأهداف الوطنية الفلسطينية. فزيادة تمويل الاتحاد الأوروبي للسلطة الفلسطينية في أعقاب الانقسام، أسوة بالسياسة الأميركية، لا يعد تدخلاً بريئاً في الشأن الفلسطيني. والهدف الرئيس للفلسطينيين والذي ينعكس في سياساتهم العامة الرسمية وغير الرسمية والصريحة والضمنية هو التحرر من الاحتلال، ومواجهة ممارساته التي تقوض مكانتهم السياسية ووجودهم الفعلي في وطنهم.
يبدو أن التمويل الأوروبي جاء ليدعم بقاء الوضع في الأراضي الفلسطينية على حاله في ظل استمرار الاحتلال، بعد أن جاء في الأساس ليدعم حل الدولتين. ورغم المرونة النسبية في شروط تمويل الاتحاد الأوروبي مقارنة بالولايات المتحدة، يبقى الاتحاد سائراً على الخطى السياسية للولايات المتحدة تجاه الفلسطينيين. كما أنه من الصعب اعتبار هذا التمويل الغربي غير مسيس في ظل وضعه لشروط تتدخل في صميم السياسة الفلسطينية. ويبقى للفلسطينيين الكلمة الأخيرة في تحديد معايير عملهم الوطني، دون التأثر بأي أجندات خارجية.
* أكاديمية وكاتبة فلسطينية
اقرأ ايضا: تفويض شعبي لترامب وسنوات عجاف للفلسطينيين
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com