إن الساسة الإسرائيليين المتمرسين فى العمل السياسي ـ بعيدا عن التزامات ومزايدات الأحزاب الدينية المتطرفة ـ يعلمون أن الدولة الفلسطينية سوف تقام فى النهاية ولكنهم يحاولون بجميع الوسائل إما تأجيل إقامتها قدر استطاعتهم لأسباب انتخابية، أو من أجل وضع الأسس التى تقيد قدرات هذه الدولة خاصة فى المجالين الأمنى والعسكرى حتى لا تشكل أى تهديد للأمن الإسرائيلى. كما أن الساسة الإسرائيليين يعلمون أن الشعب الفلسطينى لن يقبل أن يظل تحت نير الاحتلال إلى مالانهاية وأن مقاومته سوف تتواصل بجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة وأن دوامة العنف لن تنتهى، كما يعلم هؤلاء الساسة أن المجتمع الدولى كله يؤيد بالإجماع مبدأ حل الدولتين بما فى ذلك الإدارة الأمريكية الحالية.
وهنا لابد لنا أن نقف كثيرا عند الخطاب الذى ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلى يائير لابيد أمام الدورة 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة فى 22 الحالى عندما أعلن تأييده مبدأ حل الدولتين، مؤكدا أن قوة إسرائيل تتيح لها السعى لإقامة السلام مع الفلسطينيين على أساس دولتين لشعبين وبمايضمن أمن ومستقبل إسرائيل ولكن بشرط أن تكون الدولة الفلسطينية دولة سلمية ولا تصبح قاعدة للإرهاب تهدد وجود إسرائيل، مشيرا إلى أن أغلبية الشعب الإسرائيلى تؤيد هذا الحل . وفى رأيى أن هذا الموقف الذى اتخذه «لابيد» يعتبر متغيرا مهما فى الوقت الراهن وقد يغير من مسار القضية الفلسطينية إذا ما أحسن استثماره، خاصة أنه من المؤكد أن "لابيد" أعلن موقفه فى ضوء اقتناعه بأن استمرار الصراع لن يكون فى مصلحة إسرائيل، كما أنه يعلم أن اتفاقات التطبيع مهما تعددت فإنها لن توفر لإسرائيل الأمن والاندماج الإقليمى الذى تبحث عنه لاسيما مع تصاعد التوتر فى الضفة الغربية الذى يمكن أن يصل إلى انتفاضة ثالثة تنفجر فى وجه إسرائيل. ولابيد يعلم من خلال هذا الموقف أنه يخاطر بمستقبله السياسى فى مواجهة نيتانياهو الذى مازالت معظم استطلاعات الرأى تميل إلى صالحه وتمنحه فرصة تشكيل الحكومة القادمة، وفى رأيى أن موقف لابيد سوف يؤدى إلى تغييرات فى الساحة الداخلية الإسرائيلية قبل انتخابات الكنيست 25 المقررة بعد بضعة أسابيع والتى سوف تشهد زخما شديدا على مستوى جميع الأحزاب وتحالفاتها المتوقعة، وأعتقد أن لابيد قد راهن على أن معظم الشعب الإسرائيلى سوف يؤيد توجهاته. وحتى لانبتعد عن الواقع وتعقيداته فلابد أن نعترف بأن موضوع حل الدولتين يكتنفه العديد من الصعاب سواء مايتعلق بحجم وموقع المستوطنات أوبالمتطلبات الأمنية الإسرائيلية، وهنا أود أن أشير إلى أن هناك تقدما كبيرا قد حدث فى معالجة القضايا الأمنية خلال المفاوضات التى تمت بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني على مدى سنوات طويلة قبل عام 2014 وبعضها بمشاركة أمريكية، ومن ثم لا ينبغي عند استئناف التفاوض البدء من نقطة الصفر بل الاستفادة من كل المقترحات السابقة الموثقة في الملفات.
ومن المؤكد أن الجانب الفلسطيني على استعداد لطمأنة كل جيرانه وليس إسرائيل فقط بأن الدولة الفلسطينية المرتقبة لن تمثل أي تهديد لأى دولة، بل إن هناك قبولا مبدئيا بالإجراءات الأمنية التي تطمئن الجميع بشرط ألا تؤثر على سيادة الدولة الجديدة، حيث إن الشعب الفلسطيني الذى انتظر تحقيق حلم الدولة سنوات طويلة سوف يكون أكثر حرصا على استقرارها.
من الضروري أن نتعامل مع خطاب لابيد بجدية تامة وألا ننظر إليه على أنه مناورة ـ حتى لو كان كذلك ـ وعلينا أن نستثمر هذا الموقف ونجعل منه نقطة انطلاق لتغيير الواقع الفلسطيني الراهن، خاصة أن الرئيس الأمريكي بايدن أسرع بتأييد هذا الموقف، كما أن الرئيس أبو مازن رحب به أيضاً فى خطابه أمام الجمعية العامة يوم 23 الحالي مطالبا بترجمته إلى مفاوضات بين الجانبين على أساس القرارات الدولية. وإذا كنا سوف نتحرك مستقبلا في اتجاه حل الدولتين فإن هناك مسئولية ذات شقين تقع على الجانب الفلسطيني، الشق الأول وهو الاستعداد للمفاوضات فى حالة استئنافها وذلك بالتنسيق مع كل من مصر والأردن، والشق الثاني البدء فورا فى تحقيق المصالحة التى مازالت مفقودة والتي بدونها سوف يكون حل الدولتين معلقا حتى إشعار آخر.
ومن هذا المنطلق أقترح أربعة اقتراحات:
الأول: إعلان أكبر قدر من التأييد لموقف لابيد نظرا لتماشيه مع الرؤى المطروحة لحل القضية الفلسطينية مع العمل على تشجيعه على السير فى هذا التوجه.
الثاني: بلورة الدول العربية رؤية شاملة وواقعية لوضع الآليات المطلوبة والمقبولة لتنفيذ مبدأ حل الدولتين مع مواصلة دعم موقف الرئيس أبومازن.
الثالث: فى حالة نجاح لابيد فى تشكيل الحكومة يتم إطلاق المفاوضات بعد تشكيلها مباشرة وألا تتأخر عن بداية العام المقبل 2023 .
الرابع: فى حالة نجاح نتانياهو يجب العمل على استمرار قوة الدفع التى تولدت من أجل إجباره على الدخول فى مفاوضات، وهي معركة لابد أن نخوضها وأن نفرض عليه السلام الذى نأمله.
* نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com