بقعة من الأرض لا تتجاوز مساحتها 360 كم مربع، إلا أنها شاهدة على تاريخ عريق سُطر في جميع أركان "قطاع غزة"، تلك المنطقة الأثرية التي تعود لقرون مضت وتحوي بصمات وحكايات ضاربة في جذور التاريخ والحضارات.
"غزة هاشم" نسبة لوجود قبر جد النبي محمد صلّى الله عليه وسلم (هاشم بن عبد مناف)، هي أقدم مدن العالم التي أسسها العرب الكنعانيون قرابة الألف الثالثة قبل الميلاد، وتعج بالآثار والكنوز التي تواجه أخطارًا لا حصر لها؛ بين الاحتلال وضرباته المتكررة على القطاع، وغياب المسؤول الإهمال لتلك البقعة الثرية.
(آثار غزة)
ما إن استخدمت محرك البحث "غوغل" لتقرأ عن الآثار المكتشفة في "قطاع غزة" ستشعر بأن التاريخ ولد في تلك البقعة الضئيلة نسبيًا من حيث المساحة.
إذ أن تلك الرقعة التي يبلغ طولها 41 كم، وعرضه بين بين 5 و15 كم، تعد من بين أغنى بقاع الدنيا لما تحويه من آثار تعود لآلاف السنين، بين بيوت ومقار ومعالم أثرية وتاريخية تمثل هوية وتاريخ "أرض العزة" وقضيتها.
غزة والتي تعد بمثابة بوابة آسيا ومدخل أفريقيا بحكم الموقع الجغرافي بين مصر وبلاد الشام، وبين آسيا وأفريقيا، كانت عبر التاريخ نقطة مواصلات ومحطة قوافل وبالتالي مركزًا تجاريًا عالميًا، إذ بنيت غزة القديمة على تلة ترتفع 45 مترًا عن مستوى سطح البحر، يحيط بها سور عظيم له عدة أبواب من جهاته الأربع.
وتزخر فلسطين بمواقع فريدة توضح بأن الإنسان سكن هذه الأرض منذ أكثر من مليون سنة، بدءًا من العصر الحجري القديم، انتقالاً إلى العصر البرونزي والحديدي والفارسي والهيلينستي والروماني والبرنزي والإسلامي وصولًا إلى وقتنا هذا.
ويوجد في أراضيها أكثر من 7000 موقع أثري، تنقسم إلى 2000 موقع رئيسي و5000 معلم من مقامات ومقابر وأنظمة مياه وغيرها، وتحتوي على حوالي 350 مركزًا تاريخيًا، وتضم حوالي 60000 مبنى تاريخي، وتشكل هذه المواقع جزاءً مهمًا من التراث الوطني والإنساني ويتمتع بعضها بقيم وأهمية عالمية، وسجل بعضها على لائحة التراث العالمي، وقسم لازال في قائمة الانتظار ليصبح تراثًا عالميًا.
(اكتشاف مذهل)
وعلى الرغم من كم الإهمال والسرقات التي نالت من تاريخ غزة وأرضها، إلا أن تلك الأرض الثرية لاتزال تحمل في باطنها العديد والعديد من الكنوز التي تبهر العالم.
ففي فصل الربيع الماضي، كان مزارع فلسطيني يتهيأ لزراعة شجرة زيتون في أرضه، عندما اصطدمت مجرفته بأرضية صلبة، فنادى ابنه، وعلى مدى ثلاثة أشهر حفرا معًا سطح الأرضية من التراب، واكتشفا أن الأرضية مغطاة بلوحة فسيفسائية مزخرفة تعود للعهد البيزنطي، ويقول بشأنها علماء الآثار، إنها واحدة من أعظم الكنوز الأثرية التي تم العثور عليها في قطاع غزة.
وقد أثار هذا الاكتشاف الابتهاج والتشويق في صفوف علماء الآثار، لكن هذا الاكتشاف يثير معه الدعوات أيضًا إلى حماية الآثار بشكل أفضل في القطاع الذي تحاصره القوات الإسرائيلية، حيث توجد مجموعة هشة من المواقع، التي يتهددها نقص الوعي بأهميتها ونقص الموارد، إضافة إلى الصراع الإسرائيلي مع الفلسطينيين.
وتم الكشف عن الأرضية الفسيفسائية شمال القطاع، وهي تضم 17 صورة أيقونية، لوحوش وطيور محفوظة جيدًا وألوانها زاهية، وتبلغ مساحة الأرض التي تغطيها اللوحة الفسيفسائية حوالي 500 متر مربع، وتوجد ثلاث مناطق محفورة تكشف بعضًا من ملامح الفسيفساء، أكبرها يبلغ 3 أمتار طولاً على مترين عرضًا، وهي تحمل 17 رسمًا لحيوانات، فيما تحمل المنطقتان الأخريين نماذج دقيقة على من البلاط.
(إهمال وسرقة)
وبين إهمال المسؤولين وسرقة تجار الآثار، تغرق هذه الأماكن والآثار في واقعٍ بائسٍ، بفعل حالة الانقسام السياسي، وضعف الرقابة، واستهتار بعض المواطنين بقيمتها، فمنها ما تحوّل مكبًا للنفايات، ومنها ما تهاوت حجارتُه نتيجة عدم الترميم وإهمال الجهات المسؤولة عنها، وأماكن حولتها سنوات هجرةِ أصحابها إلى زقاقٍ تسكنه الكلاب والقطط، أو زوايا يتبوّل فيها المارة، بحسب مواطنين يعيشون في محيط هذه الأماكن الأثرية.
وعلى رغم العديد من المناشدات المحلية سواء من قبل السلطة الفلسطينية المتمثلة في وزارة الآثار وبعض الوقفات الرافضة لما ألم بآثار القطاع وكامل فلسطين من نهب وسرقة، أو التحذيرات العالمية مثل منظمة العلوم والثقافة (يونسكو)، إلا أنها لم تمنع مواصلة أعمال التجريف والسرقة والإهمال في تلك الموقع.
وبلا شك أن للاحتلال الإسرائيلي يدًا في سرقة وطمس وتخريب الآثار الفلسطينية عمومًا، وغزة خصوصًا، لكن دائمًا ما تلقي السلطة الفلسطينية باللائمة على شماعة الاحتلال، وكأنها غير مساهمة بأي شكل فيما وصلت إليه تلك المناطق الأثرية من خراب ودمار.
ففي تبريرها للسرقات التي طالت تلك الآثار، تقول الجهات الفلسطينية المسؤولة إن الاحتلال قام بالاستيلاء على متحف آثار فلسطين في القدس، ونقل جزءًا كبيرًا من محتوياته إلى متاحف ومعارض إسرائيلية ومناطق غير معلومة في مخالفة واضحة للاتفاقيات والقانون الدولي الإنساني، وإن كان ذلك صحيحًا فأين دور السلطات الفلسطينية في الحفاظ على تلك الآثار؟.
سلطات الاحتلال لم تتخذ الإجراءات القانونية اللازمة في حماية الآثار الفلسطينية في المناطق التي احتلتها مما أدى إلى تشجيع ظاهرة سرقة الآثار وفقدان دولة فلسطين لمئات الآلاف من اللقى الأثرية والتي هربت إلى الكيان الإسرائيلي وإلى الأسواق السوداء في مختلف أنحاء العالم.
(عصابات الآثار)
من جانبهم، يقول مسؤولون فلسطينيون إن العبث بالتراث الثقافي الفلسطيني وسرقته يؤدي إلى طمس الهوية الثقافية الفلسطينية وينتج عنه تدمير المواقع الأثرية والتراثية ويفقد الفلسطيني جزاءً أساسيًا من ذاكرته وتاريخه الذي ينتمي إليه.
وأضافوا أن سرقة الآثار ظاهرة معقدة يقودها أفراد ووسطاء أو عصابات تعمل بشكل غير قانوني، فهنالك من يقوم بالبحث عن الآثار ثم يبعها لتجار محليين بدورهم يهربونها لتجار إسرائيليين وسطاء، وبذلك تهرب إلى خارج الأراضي الفلسطينية، ثم تنتقل إلى دول العالم من خلال المعابر أو المطارات، ويكون ذلك تحت ذرائع حاجة الناس المادية في كسب القوت والعيش، وهدف الربح المادي والثراء السريع، وعدم إدراك ضعفاء النفوس أهمية تراثهم الذي هم جزء منه.
(آثار غزة..بين غياب المسؤول ونهب المحتل)
وعلى الرغم من أن وزارة السياحية الفلسطينية، إحدى الجهات المسؤولة عن الحفاظ على تلك الآثار إلا أنها تعترف بأن فلسطين عانت وما زالت تعاني من ظاهرة سرقة الآثار والتراث الثقافي ونقلها خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الأيام الأولى للاحتلال الإسرائيلي عام 1967م.
وتؤكد الوزارة، أن من أبرز المعيقات التي تحول دون الضبط الفعال لسرقة وتهريب الآثار من فلسطين هو ما تقوم به سياسة الاحتلال على تشجيع سرقة وتهريب الآثار، وكذلك تنقيبات سلطة الاحتلال الإسرائيلية في المواقع الأثرية الفلسطينية، ومن الأمثلة البسيطة على ذلك التنقيبات في البلدة القديمة بالقدس وسلوان وتل الرميدة في الخليل وجبل الفرديس (الهيروديوم) في بيت لحم، وخربة سيلون في رام الله، وجبل جرزيم في نابلس، وتلول أبو العلايق في اريحا، ورفح في قطاع غزة.
ويعمل الاحتلال على وضع السيطرة على المواقع الأثرية المحاذية للمستوطنات كما جرى مؤخرًا في موقع خربة دير سمعان ودير قلعة في سلفيت، وبناء جدار الفصل العنصري وما تسبب عنه تدمير وتجزئة عشرات المواقع الأثرية، والشوارع الالتفافية.
ومن المعيقات أيضًا، التقسيمات السياسية على الأرض التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين والمصنفة بمناطق (أ، ب، ج)، التي تحول من إدارة وحماية التراث الفلسطيني بشكل فعال في مناطق (ج) التي تشكل حوالي 60 % من الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى ما قامت به سلطات الاحتلال في الآونة الأخيرة من سرقة لجرن المعمودية الأثري من بلدة تقوع.
لذا يمكن القول إنه بين الإهمال وعمليات السرقة والنهب تضيع آثار حافظت عليها الأرض أكثر ممن عليها..آثار حملت تاريخًا عريقًا لأرض احتضنت مختلف الحضارات على مر العصور.
وأخيرًا لا نستطيع غض الطرف عن أن آثار فلسطين ومعالمها التاريخية عرضة للسرقة والعبث على مدار عقود، سواء بسبب جدار الفصل العنصري والمستوطنات والعصابات الإسرائيلية أو بيد الإهمال وقلة الوعي وتقصير المسؤول، كلها أسباب تغذي بنهم عملية التشويه التي تتعرض لها الهوية الفلسطينية وتاريخ "أرض النضال".
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com