يمكن أن نطلق على ما يجري من عمليات مقاومة بطولية يغلب عليها العمل المسلح جدلًا "انتفاضة" من نوع جديد، فمنذ بداية هذا العام، نفّذ المقاومون، وفق المصادر الإسرائيلية، أكثر من 6 آلاف عملية، منها أكثر من ألف إلقاء لقنبلة مولوتوف، وأكثر من 200 عملية مقاومة مسلحة، سقط جراءها 20 قتيلًا إسرائيليًا، بينما ارتقى أكثر من 150 شهيدًا، منهم أكثر من 90 شهيدًا في الضفة الغربية، والباقي في قطاع غزة. وكان من هذه العمليات المسلحة عملية "البقيعة" في الأغوار، التي أسفرت عن إصابة 6 جنود إسرائيليين، في عملية وصفت بالنوعية، نظرًا إلى مكانها، وتوقيتها، ودقتها، ونوع الاستهداف، وأما المنفذون فهم أبٌ وابنه وابن أخيه.
واستنادًا إلى تقرير نشره مركز معلومات فلسطين "معطى"، شهد شهر آب الماضي تصاعدًا في وتيرة العمليات الفدائية؛ بواقع 832 عملًا مقاومًا، من ضمنها 73 عملية إطلاق نار؛ ما أدى إلى إصابة 28 إسرائيليًا بعضهم بجراحٍ خطرة. فيما استشهد 9 فلسطينيين برصاص قوات الاحتلال، وبعضهم خلال اشتباك مسلح.
في المقابل سجل مركز معطى خلال الشهر الماضي 3013 انتهاكًا إسرائيليًا، ومن ضمنها اعتقال 657 فلسطينيًا، وإصابة 590 آخرين، و215 عملية إطلاق نار نفذها جيش الاحتلال ومستوطنوه، وهدم 43 منزلًا، فضلًا عن القيام بـ 648 اقتحامًا لمناطق مختلفة في الضفة والقدس، ووجود 297 حاجزًا ثابتًا ومؤقتًا.
أسباب اندلاع "الانتفاضة" الحالية
إذا أردنا أن نفسر ونحلل أسباب هذه "الانتفاضة"، سنجد أنها أولًا وقبل كل شيء ردٌ طبيعيٌ على قيام سلطات وقوات الاحتلال بتصعيد عدواني كبير متعدد الأشكال، وشن هجوم معاكس لإجهاض آثار وتداعيات انتصار الفلسطينيين في العام الماضي، الذي شهد هبات وموجات انتفاضية جسدت وحدة الشعب والساحات، ورفعت من المعنويات الفلسطينية وثقة الفلسطينيين بالمقاومة.
لقد استطاع الاحتلال تسجيل بعض النقاط هذا العام، خصوصًا المضي في تهويد القدس والأقصى، وتنظيم مسيرة الأعلام، ولكن الرد الفلسطيني "بالانتفاضة" من نوع جديد يثبت مرة أخرى عدم إمكانية كي وتغيير الوعي الفلسطيني.
وواصل الاحتلال سياسة "جز العشب" من دون الأخذ حتى الآن بخيار تنفيذ عملية أو عمليات سور واقٍ جديدة حتى الآن، نظرًا إلى الثمن المترتب عليها، وإلى قلة المعلومات، وهذا قيد الدراسة، وقد يلجأ إليه الاحتلال لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية تندرج في السعي لوقف وكسر المقاومة، وفي ترتيب البيت الفلسطيني تحسبًا لغياب الرئيس محمود عباس، وضمان أن يكون خليفته مناسبًا لتنفيذ مخططات الاحتلال، وذلك إذا فشلت العمليات والاقتحامات والاغتيالات والاعتقالات في تحقيق أهدافها، وهي مركزة خصوصًا في جنين ونابلس، وزادت بشكل مضاعف في الأشهر الأخيرة من هذا العام، فضلًا عن شن الاحتلال عدوانًا على قطاع غزة، ومحاولة بث الفتنة بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
كما استمر الاحتلال في تطبيق خطة السلام الاقتصادي في الضفة والقطاع، كما يظهر في سياسة السماح للعمال للعمل من قطاع غزة، وتوسيع عدد المستفيدين في الضفة من بطاقات (VIP) و(BMC)، وزيادة عدد التصاريح حتى للمسافرين عن طريق مطار اللد، والشروع في السماح للفلسطينيين باستخدام مطار رامون، في محاولة لبث الفتنة بين الفلسطينيين وبين الأردن وفلسطين، فخطورة مطار رامون كونه يعزز ويؤشر إلى أن الوضع الحالي يراد له أن يكون الحل النهائي، وأن أقصى ما يتمتع به ويمكن أن يحصل عليه الفلسطينيون هو حكم ذاتي محدود ضمن السيادة الإسرائيلية، ويمكن توسيعه لاحقًا إذا التزم الفلسطينيون، وقبلوا بما هو مخطط لهم، وفي جوهره التعامل معهم بوصفهم أفرادًا وليسوا شعبًا محتلًا له حقوق، وخاضعًا لاستعمار استيطاني يستخدم كل أشكال القمع والاحتلال والأبارتهايد.
كالعادة، فاجأت ردة الفعل الفلسطينية الاحتلال، فبدلًا من الخضوع والتعايش والقبول بالمخططات الإسرائيلية، تشكلت الكتائب العسكرية، وأصبح أي اقتحام لأي منطقة لا يواجه بالحجارة فقط، وإنما بإطلاق الرصاص، وهذه باتت ظاهرة لا تنحصر في جنين، ثم نابلس، وإنما تنتشر رويدًا في كل مكان، في رام الله، وطوباس، والخليل ... وهكذا؛ حيث قال أحد المحللين الإسرائيليين، إن عملية اعتقال الفلسطيني كانت تستغرق بضعة دقائق، أما الآن فالأمر تغيّر؛ حيث تتعرض قوات الاحتلال في كل مرة لإطلاق نار ومواجهات مع الشبان.
ومن الأسباب التي أدت إلى هذه "الانتفاضة" الجديدة أن السلطة يتواصل تآكل شرعيتها، وفقدان مصداقيتها وهيبتها وسيطرتها، والأهم فقدانها الرغبة والقدرة على التحكم؛ نتيجة لفشل مشروعها، وتصاعد العدوان بكل أشكاله، حتى في المدن، من دون الحرص على حفظ ماء وجه السلطة، وعدم إقدامها على اعتماد مشروع جديد، والاكتفاء بالدعوة لوقف الخطوات الأحادية والقتل اليومي ولإنقاذ حل الدولتين، وعقد مؤتمر دولي، وكلها صرخات في الوادي لا تملك أي إمكانية للاستجابة لها؛ ما يزيد الهوة بين السلطة والشعب، وهذا لا يؤدي إلى سيطرة حركة حماس وحدها أو مع حركة الجهاد الإسلامي على الضفة الغربية (جراء وقوف الاحتلال بالمرصاد) كما تردد الأوساط الإسرائيلية، لتزيد من دور السلطة في مكافحة المقاومة والمقاومين، ومن مخاوف أهل الضفة من تكرار ما حصل في غزة من حصار وعدوان حوله إلى أكبر وأطول سجن في التاريخ، ولحثها على المضي في تصفية البنية التحتية للمقاومة.
يغلب على الانتفاضة الحالية، على الرغم من مشاركة الفصائل فيها، العفوية والفردية والعمل المسلح، على الرغم من الجمع ما بينه وبين المقاومة الشعبية، وتأتي لسد الفراغ الناجم عن غياب فصائل المقاومة، وكردود أفعال طبيعية على ما يقوم به الاحتلال من تصعيد عدوانه بكل الأشكال لتكريس وقائع وحقائق تجعل الحل الإسرائيلي أكثر وأكثر هو الحل الوحيد المطروح.
ومن الأسباب التي أدت إلى التصعيد الإسرائيلي الحالي أن الحكومة الإسرائيلية تريد أن تثبت أنها لا تقل تطرفًا ولا دموية عن سابقاتها، نظرًا إلى خلفية رئيس الحكومة غير العسكرية، وذلك للحصول على أصوات أكثر في الانتخابات الإسرائيلية القادمة، وهذا لم يجد نفعًا حتى الآن على الأقل، كما تشير الاستطلاعات؛ لأن الناخب الإسرائيلي اليميني في غالبيته الساحقة يفضل انتخاب المتطرف الأصلي وليس الذي يقلده، وهذا ليس أهم الأسباب؛ لأن السياسة الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين من حيث الجوهر ثابتة، ولا تتغير بتغير الحكومات، فالتغيير يبقى شكليًا وثانويًا وفي الدرجة وليس في النوع، ولا يشكل انعطافة، خصوصًا في السنوات العشرين الأخيرة، حين تلاشى ما سمي "معسكر السلام"، ولم يبق منه سوى بقايا وشظايا.
انتفاضة من نوع جديد، مهمة ولكنها لن تتحول - على الأرجح – إلى انتفاضة شاملة قريبًا
إذا أردنا أن نتعرف إلى أفق "الانتفاضة" الحالية، سنجد أنها ستكون مجرد موجة انتفاضية جديدة تدل على إبداع الشعب وإصراره على الصمود والمقاومة، وعدم استعداده للاستسلام؛ أي لن تتحول على الأرجح إلى انتفاضة شاملة، وهي ستضاف إلى الهبات والانتفاضات التي شهدتها الأرض الفلسطينية المحتلة، التي أخذت عناوين مختلفة، مثل: الأسرى، ومقاومة تهويد القدس ومخططات الاحتلال المتنوعة والعدوانية، وخصوصًا إزاء الأقصى، والحصار الخانق على قطاع غزة، الذي شهد عدوانًا إثر عدوان، كما شهد الصمود والمقاومة ومسيرات العودة، ومقاومة التمييز العنصري، خصوصًا في الداخل، والتهجير ومصادرة الأرض، والمضي في تنفيذ مخطط تقسيم الضفة إلى معازل آهلة بالسكان، ومنفصلة أكثر وأكثر عن بعضها البعض.
أما لماذا نعتقد بأنها موجة جديدة ستنحسر، لتنطلق بعدها هبة أو موجة أخرى، كما حصل منذ توقف الانتفاضة الثانية، وتحديدًا منذ العام 2015 وحتى الآن، وهذا مهم، ويبقي القضية حية، ويفشل مخططات الاحتلال حينًا ويبطئ تنفيذها حينًا آخر، ولكنه لا يكفي لوقف العدوان ولتحقيق الانتصار؟
شروط اندلاع انتفاضة شاملة
إن تحوّل الهبات والموجات إلى انتفاضة شاملة على غرار سابقاتها، بل أكبر من سابقاتها، وحتى تحمل أفقًا حقيقيًا بالانتصار؛ بحاجة إلى شروط عدة، يمكن تلخيصها بتوفر رؤية جديدة، وإستراتيجيات تستجيب للظروف المشتركة وللخصائص المميزة لكل تجمع فلسطيني، تنبثق منها قيادة موحدة، وإرادة مستعدٌ أصحابها للتحدي والمواجهة، وحينها فقط يمكن تحقيق وحدة الساحات.
الانتفاضة الشاملة بحاجة إلى إعادة بناء المنظمة لتكون جبهة وطنية عريضة قولًا وفعلًا، ويمكن الشروع في تشكيلها فورًا من كل من يوافق على هذه الرؤية، وينطلق من القواسم المشتركة، كما أن الانتفاضة بحاجة إلى ظرف عربي وإقليمي ودولي ملائم، وهذا شرط في منتهى الأهمية؛ لأنه يساعد على توفير الأمل بالانتصار، والأمل هو الذي يصنع الانتصارات الكبرى، وليس اليأس، وهذا ليس متوفرًا حتى الآن، ولكن هناك إرهاصات ومبادرات وبوادر وحراكات تنتشر في جميع أماكن تواجد الشعب الفلسطيني تشير إلى أنه ممكن توفيره، ولو بعد حين.
استمرار الانقسام والتوهان وتآكل الشرعيات والمؤسسات
لا يزال التوهان القيادي متواصلًا، ولا يزال تآكل الشرعيات والمؤسسات مستمرًا، فيما الغالب على المشهد إستراتيجيات البقاء والانتظار، والتعامل هنا وهناك مع ما يطرحه الاحتلال من مخططات وما يفرضه من وقائع، وأما المشروع الوطني فبحاجة إلى إحياء، وأما الانقسام فمستمرٌ ويتعمق، ومع استمراره لا يمكن أن تكون هناك إستراتيجية واحدة تقود إلى النصر والتحرير، بل أدت إلى صمود وتصدٍ ودفاع عن بقاء السلطتين من دون تراكمات وحصاد يكون في مستوى التضحيات والبطولات؛ أي بلا إنجازات سياسية حاسمة تجعل الانتصار الكبير ممكنًا، وهذا هدف وطني كبير لا بد من مواصلة السعي لتحقيقه، فالشعب الفلسطيني بحاجة إلى انتصار، ويستحق الانتصار.
تحديد الهدف الوطني الناظم القابل للتحقيق شرط لا غنى عنه
حتى تندلع انتفاضة قادرة على الانتصار، يجب أن تحدد الهدف الوطني، الذي يتطلب تركيز النضال بكل أشكاله لتحقيقه، فالانتفاضة من دون هدف مركزي ناظم قابل للتحقيق لن تكون سوى صفحة مجد جديدة في سفر التكوين الفلسطيني، وهذا مهم ويساهم في إبقاء القضية حية ولكنه، لا يوقف تقدم المشروع الصهيوني.
يجب التفكير بأضرار الاكتفاء بوضع هدف أو أهداف كبيرة بعيدة المدى ولا يمكن تحقيقها على المديين المباشر أو المتوسط، فهذا لا يجعل النضال قادرًا على تحقيقها، وبالتالي تضيع فرصة تحقيق ما يمكن تحقيقه.
الجمع بين مختلف أشكال المقاومة والشعبية هي الشكل الرئيسي
تحتاج الانتفاضة، بعد تحديد الهدف الناظم، إلى اعتماد أشكال النضال الوطنية وليست الفئوية المناسبة، وهذا يعتمد على تشخيص الوضع القائم، وأين تقف القضية الفلسطينية الآن، وكيف يمكن أن تتقدم، وموازين القوى، وبالتالي لا بد من تشخيص دقيق، والاستفادة من الدروس والعبر السابقة، فلا يمكن في ظل التفوق العسكري الإسرائيلي الراهن والتطبيع والتتبيع الرسمي العربي، وطبيعة الجغرافيا الفلسطينية، وغياب البعد العربي والإقليمي والدولي الذي يوفر هانوي للمقاومة الفلسطينية؛ اعتبار الكفاح المسلح الأسلوب الوحيد أو الرئيسي، والمضي في تشكيل كتائب عسكرية علنية (لا بد من اعتماد العمل السري من قبل خلايا المقاومة المسلحة في الضفة، والابتعاد عن التدريبات والاستعراضات المسلحة العلنية وشبه العلنية) تكون هدفًا للاغتيال، وتفتقد البعد الجغرافي والإستراتيجي والإمكانات القادرة على الاستمرار وحماية نفسها، كما ليس صحيحًا استبعاد الكفاح المسلح كليًا من أشكال المقاومة؛ لأن طبيعة المشروع الصهيوني وجذريته وعدوانيته، وعدم استعداده للتسوية، تستوجب أهمية الاحتفاظ بحق المقاومة المسلحة واستخدامها بشكل مدروس، فتاريخ النضال الفلسطيني وما حصل في العام الماضي وهذا العام يزكي كل أشكال النضال، والجمع فيما بينها.
استخدام الصواريخ ضمن إستراتيجية وقيادة موحدة، وفي حالات تحدد بدقة
من الأفضل في هذه المرحلة التركيز بشكل رئيسي على أشكال المقاومة السياسية والقانونية والديبلوماسية والشعبية والمقاطعة، من دون إهمال كلي للمقاومة المسلحة، ولكن بمنظور أن الهدف والأولوية الآن الحفاظ على القضية حية، وعلى تواجد الشعب على أرضه، وتعزيز عوامل صموده، والحفاظ على المكاسب المتبقية، وتقليل الأضرار والخسائر، وإفشال أو إبطاء تقدم المشاريع المعادية، فالمقاومة المسلحة يجب أن تهدف أساسًا في هذه المرحلة إلى الدفاع عن النفس، ومنع إعادة احتلال قطاع غزة بشكل مباشر، وإيقاع خسائر بين صفوف قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين المسلحين.
أما استخدام الصواريخ فيجب أن يكون ليس ردة فعل على كل عدوان على الأقصى أو أي اعتقال أو إجراء صهيوني، ولا مسألة خاصة بهذا الفصيل أو ذاك، بل قضية وطنية تستخدم في حالات مدروسة (حتى لا يتكرر ما حدث في العدوان الأخير إثر اعتقال بسام السعدي، وعدوان 2019 إثر اغتيال بهاء أبو العطا، حينما خاضت حركة الجهاد الإسلامي في المرتين المواجهة وحدها، على الرغم من توفير الغطاء السياسي والدعم لها). ومن هذه الحالات التي تجيز استخدام الصواريخ، وربما الصراع المفتوح، إقدام الاحتلال مثلًا على ضم الضفة، أو أقسام منها، أو هدم الأقصى، أو فرض رسمي وقانوني للتقسيم الزماني والمكاني، أو رد على مجزرة أو تهجير كبير، والأصح ضرورة إخضاع أشكال النضال للإستراتيجية المتفق عليها، وللقيادة الموحدة المسؤولة عن تنفيذها.
* مدير عام المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية_مسارات
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com