ولأنه لم يكن لطفل في مثل هذه المرحلة المبكرة من عمره أن يستوعب حقيقة ما يدور حوله من أحداث، رغم أن حدث الثورة نفسه كان موضع اهتمام من جانب كل من يكبرني من أفراد الأسرة، اتضح لي لاحقاً أن هذا الحدث الكبير لم يترك تأثيراً يذكر في أحاسيسي ووجداني.
مع ذلك، وحين التحقت بعد ذلك بسنوات قليلة بالمدرسة الإعدادية، التي تبعد عن محل سكني عدة كيلومترات، وقع حادث آخر سرعان ما تبيّنت أنه مارس تأثيراً أشد عمقاً في مسيرة حياتي، ألا وهو العدوان الثلاثي على مصر. فعقب وقوع العدوان، طلب مدرس الرسم أن يسجل كل منا في كراسته المستطيلة ذات الأوراق المصقولة المشهد الذي التصق في مخيلته، وأن يعبر عنه بالرسم.
ولأنني لم أكن قد مارست تجربة الرسم بالألوان من قبل، فقد بدت لي هذه التجربة بالذات مثيرة للاهتمام، وقابلة للحفر في ذاكرتي بطريقة لم تكن تخطر في بالي مطلقاً. وما إن شرعت في تنفيذ ما يطلبه مني هذا المدرس البشوش، حتى خطر لي على الفور أن أقسم صفحة الرسم البيضاء أمامي إلى ثلاثة أقسام: قسم علوي، رحت أخط فوقه ما تصورت أنه مشهد لطائرات حربية مغيرة، تنطلق من خلفها خيوط كثيفة من دخان أسود داكن، وقسم أوسط، رحت أخط فوقه ما تصورت أنه مشهد لجنود مدججين بالسلاح يهبطون من الطائرات المغيرة بمظلات حمر كبيرة، وقسم سفلي أخير، رحت أخط فوقه أناساً يتدافعون، يختلط فيهم الجندي الذي يحمل في يده بندقية وذخيرة حية، بالعامل الذي يحمل في يده آلة حادة مدببة، بالفلاح الذي يحمل في يده منجلاً صغيراً أو فأساً كبيرة، والكل ينقض في حماسة منقطعة النظير على العدو الغاشم المغير!!.
كانت اللوحة بالغة السذاجة، لاشك في ذلك، خاصة إذا ما نظر إليها في مرآة المعايير الفنية المتعارف عليها. ورغم أنني كنت واعياً تماماً بهذه الحقيقة في تلك المرحلة المبكرة من حياتي، لكن الرسم على الورق بدا لي معبراً بدقة متناهية عن مشاعر طفل كان قد بدأ بالكاد يتفاعل مع ما يدور حوله من أحداث، بدليل أنني لم أنس قط هذه الواقعة، إذ ظلت تلك اللوحة الساذجة التي رسمتها للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 عالقة في ذهني حتى يومنا هذا، رغم مرور 66 عاماً.
ليس لدي من تفسير لذلك سوى أنها لوحة عبّرت بدقة تامة عن صورة لثورة 23 يوليو، كما رسمتها قريحة طفل كان على وشك الدخول في مرحلة الشباب، أي صورة ثورة قامت لإطاحة نظام فاسد، وبدت جاهزة ومستعدة للدخول في أعتى المعارك ومواجهة أضخم التحديات من أجل استقلال مصر وتنميتها وتصنيعها مهما بلغت التضحيات.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن صورة ثورة 23 يوليو ارتبطت في ذهني، أولاً وقبل كل شيء، بما جرى خلال عام 1956، أي بمعارك بناء السد العالي، وتأميم قناة السويس، ومواجهة العدوان الإسرائيلي البريطاني الفرنسي على مصر، وهي معارك انتصرت مصر فيها جميعاً، وخرج عبد الناصر منها بطلاً مرفوع الرأس، ومهيئاً لقيادة ليس مصر وحدها، وإنما الأمة العربية كلها من محيطها إلى خليجها.
ورغم أن الثورة المصرية دخلت خلال دراستي في مرحلتي الإعدادية والثانوية (1956-1963) معارك كبرى أخرى لا تقل أهمية، مثل: معركة حلف بغداد ومعركة الوحدة المصرية السورية التي انتهت بالانفصال، لا أذكر أنني تفاعلت مع أي من هذه المعارك بالأحاسيس والمشاعر نفسها التي عشتها في إبان معركة 1956.
حين تركت القرية وأقمت في مدينة الإسكندرية خلال فترة دراستي الجامعية (1963-1967)، بدأ عالمي يتسع كثيراً، ولم تعد اهتماماتي العلمية والبحثية قاصرة على قراءة الكتب والمقررات الدراسية، وإنما راحت تتسع وتمتد إلى كل ما أستطيع العثور عليه من ألوان الأدب والفنون والعلوم مما تذخر به الكتب المتنوعة في المكتبات العامة وعند باعة الصحف والمكتبات الخاصة.
وحين بدأت اختلط وأتفاعل مع مختلف التيارات الفكرية والسياسية التي تعج بها الجامعة، بدأ يتشكل لدي حس نقدي أكثر صرامة، وقدرة على تمحيص القوالب والأطروحات الفكرية الجاهزة والمعلبة. لذلك، ورغم انخراطي في منظمة الشباب التي كان يديرها الاتحاد الاشتراكي، وكذلك في اتحاد الطلاب بالكلية، خاصة خلال العامين الأخيرين من الدراسة الجامعية، ظللت قادراً على الاحتفاظ لنفسي بأكبر قدر ممكن من الاستقلال الفكري، والحرص في الوقت نفسه على التمتع بالحدود الدنيا من الحس النقدي، تجنباً للوقوع في حبائل الأطروحات النظرية البراقة والدعايات المغرضة.
لكن، كل هذه الاحتياطات لم تحل دون إصابتي بصدمة نفسية وسياسية وفكرية هائلة بسبب الهزيمة المروعة التي لحقت بمصر عام 67، وهو العام الذي أنهيت فيه دراستي الجامعية. ورغم أن هذه الصدمة أدت إلى اهتزاز ثقتي بزعامة جمال عبد الناصر في البداية، وجدت نفسي ضمن ملايين الجموع المندفعة إلى الشوارع، والمطالبة بعدول عبد الناصر عن قراره بالتنحي، ومواصلة قيادة الدولة إلى أن تتم "إزالة آثار العدوان" على الأقل.
حينها، عرفت كيف أميز بين مشروعين؛ الأول هو المشروع الوطني لثورة يوليو القائم على استقلال القرار الوطني والتنمية المستقلة المعتمدة على الذات والعدالة الاجتماعية، وهو المشروع الذي آمنت به شخصياً إيماناً عميقاً، واقتنعت به تماماً وكنت وما زلت مستعداً للدفاع عنه حتى آخر رمق في حياتي. لكن هذا المشروع لم يتمكن في الواقع من الصمود، وانتهى برحيل جمال عبد الناصر في 28 أيلول/ سبتمبر 1970.
أما المشروع الثاني فكان النظام السياسي لثورة يوليو القائم على القمع وسطوة أجهزة الأمن وغياب الحريات وعدم التوازن والفصل بين السلطات، وهو نظام صمد بعد رحيل عبد الناصر، واستمر طوال فترتي حكم كل من أنور السادات وحسني مبارك، وكان كالأداة التي التفت حول عنق المشروع الوطني لثورة يوليو، وتمكنت من خنقه في نهاية المطاف.
سافرت إلى فرنسا لاستكمال دراساتي العليا، وأقمت في باريس طوال الفترة الممتدة من بداية آب/ أغسطس 1970 حتى نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 1977، ومن هناك تابعت ما يجري في مصر طوال تلك الفترة التي تعد الأخطر في تاريخ مصر المعاصر.
بعد أقل من شهر من وصولي باريس، تلقيت صدمة رحيل عبد الناصر، ثم تابعت بعدها ما جرى من صراع على السلطة في مصر بين السادات وخصومه (علي صبري ومحمد فوزي وشعراوي جمعة ومحمد فائق)، وكيف تمكن السادات من حسم جولة الصراع هذه لمصلحته بفضل الدعم الذي حصل عليه من صديقه محمد حسنين هيكل.
وانتشينا جميعاً للإنجازات العسكرية التي تحققت خلال حرب أكتوبر المجيدة، قبل أن نصدم بعد ذلك بكيفية استغلالها من جانب أنور السادات للتأسيس لمشروع سياسي جديد في مصر مناهض تماماً للمشروع الذي قامت عليه ثورة يوليو (وهو مشروع ارتكز على ما سمي بالانفتاح الاقتصادي والتبعية للغرب والقبول بالهيمنة الإسرائيلية على المنطقة).
وحين عدت إلى مصر في بداية تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، كان السادات يستعد للقيام بزيارته المشؤومة إلى "إسرائيل"، وهي الزيارة التي كانت بمنزلة البداية الحقيقية للكارثة التي حلت بمصر والعالم العربي ككل.
وما هي إلا سنوات قليلة حتى كان الرصاص يدوي في شوارع القاهرة ويسقط السادات مضرجاً بدمائه، في إبان متابعته للعرض العسكري المقام احتفالاً بنصر أكتوبر العسكري، الذي عدّه السادات أحد أهم الإنجازات في تاريخه على الإطلاق، على الرغم من أن أهم الإجراءات التي اتخذت لإعادة بناء الجيش المصري الذي حقق هذا الإنجاز تمت أساساً في عهد عبد الناصر، الذي لولاه لما تحقق هذا الإنجاز مطلقاً.
لقد أتاحت لي الظروف أن أولد قبل سنوات قليلة من اندلاع ثورة يوليو التي غيرت وجه مصر والمنطقة، وأن أترعرع في كنف مشروع وطني تفاعلت معه بكل جوارحي، وشهدت انتصاراته الكبرى وهزائمه المدوية، كما أتاحت لي الظروف أن أتابع من خارج الوطن عملية الانقضاض على مشروع يوليو وبداية تصفيته من جانب القوى المعادية له في الداخل والخارج.
وحين بدأ المقام يستقر بي، مع تولي حسني مبارك مقاليد السلطة والحكم في مصر، اعتقدت في البداية أننا سنشهد في عهده حركة تصحيح كبرى تعيد التحام مصر بمشروع وطني رسخت أقدامه ثورة يوليو، غير أن هذا الاعتقاد لم يدم طويلاً في الواقع.
فبعد سنوات قليلة من استقرار الأمور لسلطة حكمه، تبين أن مبارك لم يكن معنياً على الإطلاق بأي مشروع لنهوض الوطن، وأنه ليس معنياً بأي شيء آخر في الواقع سوى البقاء في الحكم لأطول عدد ممكن من السنوات، وأنه يسعى ليس فقط للبقاء في السلطة حتى آخر نفس في حياته، وإنما أيضاً لنقل السلطة إلى ابنه من بعده.
وعندما تبين للشعب المصري أنه بدأ يدخل في فصل جديد من فصول "مكر التاريخ"، أيقن أنه لم يعد أمامه من بديل آخر سوى "الثورة". لذا، بدت ثورة يناير 2011 وكأنها، في أحد جوانبها على الأقل، ثورة على النظام السياسي لثورة يوليو، وليس على مشروعها الوطني، وأنها ثورة ما تزال مستمرة ولم تحسم بعد لأن النظام السياسي لثورة يوليو ما زال مستمراً ولم يسقط بعد!
لن يكون بمقدور مصر أن تعود إلى مشروعها الوطني، مشروع ثورة يوليو وليس النظام السياسي لثورة يوليو، إلا حين يصبح بمقدورها أن ترى أن "إسرائيل" ومشروعها الصهيوني هما العدو الأساسي لمصر وللأمة العربية كلها.
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com