وفد صحفي على أعلى مستوى

01:00 ص ,27 مارس 2022

صحبة غالية غادرت ولم أكن معها.. قدرى أن تلكأ قطارى فى اللحاق بها.. رفاق دِرب كانوا السابقين ونحن اللاحقون.. لحقوا بعضهم ببعض فى سباق ماراثون نهاية العمر.. الموت حق ولابدّ من فقد ومن فاقدٍ فهيهات ما فى الناس من خالد.. لكن.. رحيلهم المتسارع كان بمثابة وقع الهراوات الثقيلة المتتالية على أم الرأس تاركة كدمات موجعة على شغاف القلب، وأشواق دامية على أرض ذكريات الأمس القريب.. مع كل خبر جديد لرحيل زميل جديد أصبحت أحاول أن أصرخ فلا أجد صوتًا فى حنجرتى، وكأننى استهلكت حصتى من الحبال الصوتية على هذا الكوكب.. هذه الأيام الثِقَال أضحى الغياب فيها مرادفًا للحضور حين تداخلت أزمنة الموت والحياة وتشابكت، ولم نعد نميِّز بين شهقة الالتياع وشهقة الاحتضار، واختلطت علينا الأمور بعدما أصبح نمط الحياة له مذاق القبر.. صحبة كانت ملحًا على مائدة الحياة وبغيابها صارت الحياة ماسخة لا طعم لها ولا حرارة فيها.. أمشى فى الممرات فتطل الذكريات من جميع المفارق. أستيقظ صباحًا فى محطة النسيان على ظن أن رأسى سبورة ممسوحة، لكنها سرعان ما تفتح نوافذها لتحدق منها وجوه الغائبين الذين زاملتهم وأحببتهم لأمد أصابعى لألامس ملامحهم.. أصافحهم.. أضغط على أيديهم.. دون جدوى، لتغدو فى القلب جمرة لا تطفئها سوى عبرة.. عبرات.. جرح النهاردة يفتح قطبة قبل اندماله لتتسع فوهته لجرح جديد.. وحزن جديد.

وفد صحفى منقطع النظير وعلى أعلى مستوى، رحل دون سابق إنذار، وكأنه قد استدعى فجأة لإجراء تغطية إعلامية لمسار لا يعلمه سوى اللـه، فلم يتسع وقت الواحد أو الواحدة منهم لترك رسالة اعتذار، أو ترتيب حقيبة سفر، أو إرسال رنّة موبايل، أو الحصول على تأشيرة ذهاب وعودة، أو طبع قُبلة وداع، أو تجرع رشفة ماء، أو سماع صيحة ديك أو صوت الآذان.. أو اصطحاب الورق والقلم والكاميرا والفرشاة واللاب توب وجهاز التسجيل.. كأنهم فى ذهابهم على عجلٍ عجال إلى اجتماع إعلامى على الجانب الآخر من الكون لإجراء عدة تحقيقات واستطلاعات ولقطات وتدوين العديد من الأعمدة والمقالات ورسم ماكيتات للصفحات وتصوير للوقائع والأحداث، فالوفد الراحل له باع طويل وشهرة فائقة فى مجالات السياسة والأدب والاقتصاد والفن والمسرح والرياضة والتليفزيون.. يا ويلاه.. صفحة الوفيات اكتظت بأسماء كانت توقع بالأمس القريب فى بقية الصفحات أسفل سطورها وأفكارها ولقطاتها التى قد تكون آراؤنا مختلفة معها، أو ربما كانت متناقضة، ولكننا لأمر ما كانت تربطنا مودة عميقة ومشاعر جيّاشة ولغة خاصة لعلها بسبب البيئة التى احتضنتنا جميعًا، وصلة قرابة مداد الحبر الذى يسرى فى عروقنا، وأرضية متوارثة لصفحات مهنة البحث عن المتاعب التى غيرت مقدراتها لتغدو متاعبها البحث عن محلات الفراشة ومفتاح الجبّانة.

فى هذه الأيام المقلوب حالها أصبحت خائفة من فكرة التعود.. أن يغدو موت الزميل أو الزميلة فى حكم العادة مثل وجبة الإفطار، والسلام عليكم، وعايزين حاجة من برّه، وفوت علينا بكرة، والاكتفاء فى مشاطرة الأحزان برسالة سمجة على الفيسبوك لرأس كارتونى صغير يُبزغ دموعًا على الناحيتين بمعنى لولا الملامة وعدوى الكورونا لجئت أعزيكم بنفسى!! وما يحدث الآن فى عالمنا.. الصحافة والإعلام.. إن شكلها بقى لازم تودع جميع الزملاء فردًا فردًا يوميًا، فالعلم عند اللـه وحده لما يخبؤه آخر النهار وما يأتى به المساء، واوعى تقول لى ــ كالمتوقع ــ عن المرحوم: كنا على موعد فى العاشرة، أو قفلنا السماعة على اتفاق تكملة الحوار فى الغد، أو يا عينى عليه كان زفافه الأسبوع القادم، أو مولودته عمرها شهرين لا غير، أو عملية قلبه نجحت وما كان عنده سوى مجرد زكام بسيط، أو كان فى بطنه بطيخة صيفى بعد تعاطيه اللقاح ثلاث مرات آخرها جرعة تنشيطية، أو إن عمرو أديب استضاف دكتور فى نيوزيلاندا قال فى الترجمة إن الوباء فى انحسار وجاى لنا نوعية مهجنة أعراضها مأمونة، أو إن الحل فى منقوع اللبان الدكر ع الريق.

خائفة من بكرة.. أن تنتظرنى الغصّة كل صباح داخل فنجان القهوة.. لقد ارتفع معدل فزعى الهيستيرى إلى حد أن أى اسم أصبح يُذكر أمامى، ولو عرضًا، ألقانى أستفسر جزعًا: إيه مات؟!!!.. دفعات مطلوبة بقت تروح ماترجعشى.. الكل مات.. الكل فى الطلّ.. فى الطىّ.. طواه الوباء.. الكل راح يا خىّ.. الكل ومضة ولمعت وسرعان ما خبت والبقية الباقية بتحط رجل وتؤخِّر رجل وعلى اللـه ما النداهة تسحبها.. أفتش فى أعمدة الوفيات خشية قراءة اسمى مكتوبًا.. الصحف المسيلة للدموع تنعى كاتبيها.. الجسد حقيبة سفر سرعان ما أصبحت تفرغ حمولتها فى أول محطة.. كلنا نتأرجح فوق جسر الفناء.. كلنا لها.. كلنا أصبحت مفرداتنا: «لكل أجل كتاب»، و«الروح صعدت لبارئها» و«بلا رجعة» و«راح فى يوم مفترج» و«الجنازة حارة» و«أتته المنيّة» و«الكفن مالوش جيوب» و«الخمسان والأربعين» و«السماء تسترد وديعتها» و«سلامًا وقولا رحيما».. الصحافة صناعتها الأخبار.. إيه الأخبار؟! جبت الخبر. صِغت الخبر. اختصرت الخبر. خبر مانشيت. خبر للأخيرة. خبر مضروب. خبر وراءه توظيف أخبار. مصادر الخبر. المتحدث الرسمى. دوائر عليا. فى أول النشرة.. ويأتينا الخبر: صاحبك مات.. يا خبر!! وكلما سمعنا برحيل أحدهم ضاقت الروح. ضاقت كثيرًا وطافت بنا الأرض فى فلك الاكتئاب ونسأل: هل سنخرج للشمس ثانية؟!.. هل سنغيِّر السواد وننزه أعيننا من بعد فى زهرة أو كتاب؟! هل القيامة قائمة وبالأمس كان يوم الحساب؟! هل لانزال على كوكب الأرض أم أننا فى السراب، قولوا لهذه الأرض أن تتوقف قليلا لننزل عن ظهرها على عتبات الكهولة بهدوء وبطء ورويَّة وبشويش وتاتا تاتا وعلى أقل الأقل من المهل فردًا من بعد فرد على مدى مسافات بعيدة بعيدة، وليس جماعات من مهنة واحدة ترحل فورًا صفًا مهرولا كدفعة مطلوبة فتترك من خلفها فراغات تميل بأرض ميادينها إلى غير رجعة سوية.. ولست وحدى فى هذا الهم الكورونى المتتالى، فكل من رحل ترك من بعده دوائر أحزان وأرتال هموم وجبال مسئوليات ألقيت على كاهل من كان وكانت على غير انتظار أو تأهب أو استعداد، وعلى جميع الساحات ذُرفت أنهار دموع لأمهات ثكلى وأزواج مكلومين وآباء مصدومين وزوجات ترملن فى شرخ الشباب، ودخل عشرات الأطفال فى زمرة اليتامى.. و..رحلت من بعد مشوار الآلام والتحدى المناضلة الشهيدة أنيسة حسونة التى زرعت قبل ذهابها ألف شجرة خير وارفة الظلال.

الأبناء الزملاء الأساتذة الذين تركونا ولا يكفينا أننا قضينا معهم أطيب الأوقات. صورهم. مواقفهم. فنونهم. سطورهم. أحاديثهم. صدى كلماتهم وكأن صوت كل منهم قادم من داخلى!.. لم يعد المرء ليُميِّز بين صوته وصوت الآخر الذى رحل وعلينا أن نحتمل ونتحامل ونحن نعيش زمن ذهاب سرب اليمام مبتعدًا للضفة الأخرى.. جوقة الأحبة محفورة ملامحها على جدران القلب: مكرم محمد أحمد، محمد حجازى. ياسر رزق. هدايت عبدالنبى. حسين الشحات. محمود الكردوسى. د. عمرو عبدالسميع. د. جابر عصفور. محمد مطر. عباس الطرابيلى. د.فوزى فهمى. إبراهيم حجازى. وائل الإبراشى. جلال دويدار. جمعة فرحات. ماجدة الجندى. رياض توفيق. الخ. الخ. أصحاب قائمة الغياب لم تزل العذوبة كائنة حيث كنتم.. بنايات الصحافة واجمة لرحيلكم. المكاتب والمقاعد والسماعات والأقلام والشاشات تودع أحبابها وقد بلل الدمع أثوابها، وأعمدة الكـلام محلولة الشعر كاشفة النحر تخرج نائحة فى الطريق. كيف ترتحلون الآن عن وطن يحتاجكم الآن أكثر مما مضى؟!.. من سواكم يفرط رمانة القلب حزنًا. ذهب الأعزاء.. الصفحات يصفر فى جنباتها الريح. الأروقة خلت من غدوهم ورواحهم ومروقهم وهرولتهم وضجيجهم وتحياتهم وتنابزهم وتناحرهم وتراحمهم وخصامهم وصلحهم.. المقاعد شاغرة من جلساتهم وانحناءاتهم فوق السطوح البيضاء لتطريزها بما يُمليه العقل والقلب والعين والضمير. زهور الوطن المروية بعرق الإنسانية التى سيظل ذكراها لا يعرف الجفاف ولا يطرأ عليه الذبول.. ينفجر الحزن مثل القذيفة.. صرختى الجوانية: عودوا إلينا فإن عصركم ذهبى ونحن عصر ثانى.. عودوا إلينا خوفًا من أن يصبح ما يكتب لنا صغير الرؤى صغير المعانى، وما علينا إذا جلسنا بركن وفتحنا حقائب الأحزان، فأمام رحيلكم السريع لا نملك أن نحتج أو نصرخ أو نتمنى، أخرستنا هذه الجائحة التى من غير معنى، وأحباؤنا الذين ذهبوا من غير معنى، ودعواتنا لهم أن تكون كل ذنوبهم مغفورة واللـه جلّ جلاله التواب.. قبل موتهم المتعجل لم يحن لى وقتى المهدور عبثًا لألاقيهم، فلم أصافحهم لم أعانقهم لم أعاتبهم لم أحاورهم لم أهنئهم لم أزكيهم لم أناصرهم لم أناكفهم لم أنافسهم لم أطاوعهم لم أرح معهم، وألم اللملمات ودموعى على خدى لأنى خلاص حرمت منهم بلا عودة، وأبدًا لن أعد أرى مكرم محمد أحمد فى الأسانسير منكبًآ كعادته على أوراق معه ليرفع عينه للحظة يسألني: انت فين ولا يسمع ردى. ولن ألتقى بإبراهيم حجازى نجم النقابة والجمعية العمومية والمقال الرياضى فى تحية السلالم يلاحقه المريدون، ولن أفتح بابًا لأجد زميل الجامعة ورائد الصحافة البرلمانية سامى متولى منكبًا على تدوين آخر القرارات الصادرة من البرج، ولا هدايت عبدالنبى راجعة من الخارجية بسبق مانشيت، ولا حسين الشحات يعرض أمامى سيمفونية إخراجه للصفحات، ولن أقرأ لمحمود الكردوسى ملاحم أخرى، ولن يطالعنا الدكتور جابر عصفور بعد الآن بمقاله النقدى، ولن يُرشح لنا الدكتور فوزى فهمى من يربح شرف جائزة الدولة، ولن يخرج لنا رياض توفيق بتطوير جديد لملحق الجمعة، ولن يصحبنا الدكتور عمرو عبدالسميع لدوائر اهتماماته الإبداعية والأدبية والسياسية، ولن تترك لنا من جديد ماجدة الجندى بصمتها الواعية فى كل مجال يُعهد لها به، ولن يُمتعنا الفنان جمعة فرحات برسومه عميقة المعنى صارخة الإطار، ولن نعلم شيئًا عما يجرى على أرض المطارات ولا فى سماوات الكون بعد رحيل السندباد جلال دويدار.. ولا.. ولن..

هدايت عبدالنبى جرح الرحيل الأخير الذى لم يزل ينزف.. الصديقة الغالية ذات المنزلة الخاصة.. صاحبة المكانة الخاصة.. صندوق أسرارى الخاصة.. سنوات حميمية معها لها خصوصيتها.. هدهود المتأججة دومًا.. الوارفة الباذلة آخر ما فى جعبتها لمناصرة الصديق، فالصداقة فى شريعتها أواصر قرابة دماء وحبل سرى وشريان ووريد وخنصر وبنصر لليد الواحدة، وبطين أيمن وأيسر لدقات قلب مشترك، ومن لا يحتمل وطأة مسئولية اهتمامها وإيثارها فليذهب لدى الحبيبة للبعيد.. كانت.. وصعب على القلم تلك اللفظة كانت، فهدايت الباقية دومًا كانت مكوناتها المثالية لا تعرف النفاق ولا التملق فى دنيا أصبحت تتسرب من بين أيدينا لحق فيها التغير بكل شىء بما فى ذلك الناس.. و..يأتينى زخم الحسرة على «ياسر رزق» من كان يمتلك كل مقومات الصحفى وعلى رأسها الجاذبية الشخصية أو ما يسمى موهبة القبول، إلى جانب موهبة التأثير بالسطور، فأصبح جديرًا بالصعود السريع والجلوس فى القمة الشامخة.. وكان الإيقاع السريع المتلاحق فى دوراته العملية الحياتية يشى بأن القدر الذى كان على علم بأن العمر لن يطول بياسر أراد له تحقيق أكبر قدر ممكن من المنجزات قبل الرحيل، ففى بحر سنوات قليلة أصبح ياسر رزق علمًا فى الصحافة المصرية وواحدًا من أكبر صحفيى عصره خلال عمره القصير الحافل، وأذكر فى زيارة لأنس الفقى بعدما أصبح وزيرًا للإعلام عام 2005 اطلعنى فيها على أول عدد من مجلة «الإذاعة والتليفزيون» بعد تطويرها ذاكرًا اسم رئيس تحريرها الجديد ياسر رزق فوجدتنى بلا معرفة سابقة له أبدى شدة إعجابى بالإنجاز الصحفى للصاروخ الصحفى الجديد.. ومن موقعى فى الأهرام على الجانب الآخر من شارع الصحافة دام الود والألفة والإعجاب للفتى الشعلة الذى دخل عرين الأسود فكان ضيفًا وطنيًا شريفًا وشهمًا وعلى قد المسئولية.. و..خشيت عليه لعلمى برهافة صحة قلبه بعدما أصدر مؤلفه التاريخى الأخير «سنوات الخماسين.. بين يناير الغضب ويونيو الخلاص» فاغتالته برامج الإعلام الشرهة فى حوارات مطولة لابد وأن كان لها تأثير سلبى على قلبه، فذهب عنّا بلا وداع فى مساء يوم غاب قمره.. وفى قائمة الغياب الباتر للأواصر واللقاء كان مكرم محمد أحمد الذى عاش تحت مظلة الصحافة أخًا وزميلا ونقيبًا ورئيسا للتحرير، وكلما ارتقى منصبًا ازداد تواضعًا وألفة واحتكاكًا بالشباب الزاحف على بلاط الصحافة المنزلق.. كان مؤمنًا بالحرية التى تزهو بها الكلمة. الحرية التى تلد كلمات لا تعرف الخوف ولا تتشنج فى ذات الوقت بذكريات الألم والبغضاء، فكان أن أطلقوا على عربته الرصاص يوما، وجاء ذكره مغضوبًا عليه فى خطاب الإخوان.. ولد ورحل وبين الميلاد والرحيل قصة صحفى حقيقى من دم ولحم وأعصاب ــ مشدودة الأوتار ــ وسطور نافذة وجمل مُوحية وإضاءات كاشفة، ومثل النحات مختار كان مكرم يظل ساعات مستغرقًا يكتب رؤاه على الأوراق وهموم مصر والعالم العربى على كتفيه دون أن يضيق بها، ويعرف كيف يخترق الطريق إلى قلب الفكرة بجملة لا تضيع الوقت فى اللف والدوران حولها حتى يصل إلى لُبِّها.. كان أستاذًا صحفيًا بحق يهمه أن تصل المعلومات الصحيحة إلى كل الناس ويهمه أن يعرف كل الناس أنه على حق ودون تدليس أو تزييف حتى لو تشدد فى شرح هذا التعريف.. و..من الصعب أن نقول كان مكرم محمد أحمد لأنه حضور مستمر لا يموت..

وفى الوفد كان.. وعلى صفحات المصرى اليوم أصبحت قراءة عاموده اليومى بمثابة الإدمان.. عباس الطرابيلى عاشق مصر المحروسة الشخصية المفتوحة من عنوانها كالجواب السار.. كانت فيه حميمية طاغية تحرِّك فيمن حوله طاقاتهم الخلاّقة وتكشف لهم عن مواهبهم الحقيقية.. كل الناس عنده أصدقاء، يتكلم معهم دون تحفظ، يحدِّثهم عن تجاربه الخاصة فيكسب ودهم وحماستهم، وتتسع البسمة على شفتيه تجاوبًآ لخلجات قلب كبير يتسع لكل آلام البشر ويقدر على مداواة جروحها مهما كانت غائرة بكلمات قليلة فيها البلسم الشافى حتى أنه دعانى يومًا لترك همومى للاستغراق معه فى وصف كيفية صنع صينية البقلاوة بالقرع العسلى وجذورها التاريخية من منطلق هوايته فى فنون الطهى وعلمه الواسع فى حقائق التغذية الصحيحة والتى منها تربع ثمار الكيوى على عرش الفواكه، نظرًا لأنه مخزن لا ينضب لفيتامين C القاضى على الكورونا وملحقاتها.. و..بين صف أبناء المهنة المغادرين فى هذه الأيام العصيبة على جميع الجبهات كان محمود الكردوسى الذى كتب عن الصعيد كإقليم كامل ومنظومة معرفية كاملة وليس مجرد عمامة صعيدية تُرتدى مع جلباب ولاسة، فكانت سلسلة مقالاته «مرة واحد صعيدى» التى نشرها فى أولى خطواته بمجلة نصف الدنيا بمثابة الكشف عن صاحب موهبة لا شبيهًا له بأحد لأنه كان رحمه اللـه تيارًا جارفًا من العطاء الأدبى الثرى، ولو طال عمره دون مرضه العضال لقام بالكتابة عن الشمس والأرض والهواء والجبال والبحار والإنس والجن وبلاد الواق واق بعدما كان موضوعه الأول عن القمر يساوى دوسيهًا كاملا من أوراق الاعتماد فى صعوده إلى منزلة النجوم الأوائل فى عالم الصحافة.. ونبتلع الغصة الكبرى برحيل الدكتور جابر عصفور من كان صرحًا كبيرًا يتوه المرء فى غرفه وأبهائه وشرفاته ودروبه، وكنا لا نملك سوى الانجذاب للتجوال.. فى حديثه الطلى ــ بعكس سطوره المعرفية الفولاذية ــ كان يستحوذ على عقلى منصتة له شاعرة بالأسى عندما أحس أن هذه اللحظة ستبتعد عنى متحولة إلى الماضى.. فى سنواته الأخيرة بدأ يدخل مع النهاية فى مباراة منفردة ساحتها قلبه العليل، وبدأت تتسلل فى أحاديثه عبارات من نوع «آه لو أننى استعدت صحتى» و«لو طال بى الأجل»، وقد منح القدر البرهة المواتية للأب الروحى للعلمانية ليضع خلاصة أفكاره فى مؤلفه الضخم الذى أهدانيه وحرص بالتليفون على وصوله لى «دفاعا عن العقلانية» بمقدمته للشاعر أمل دنقل: «أصبح العقل مغتربًا يتسول، يقذفه صبية بالحجارة، يوقفه الجند عند الحدود، وتسحب منه الحكومات جنسية الوطن.. وتدرجه فى قوائم من يكرهون الوطن».. و..عزيز آخر ارتحل وكان ضيفًا عزيزًا علينا كل تاسعة مساء.. وائل الإبراشى من كان بمثابة المدفعية الثقيلة التى تطلق قذائفها فلا تخطئ هدفها.. رحل.. مع الكورونا رحل.. استنشق دخان سجائر طبيبه الخاص حتى اكتفت رئتاه فاختنق.. الـمٍُرتحل غصبًا كانت كلماته تثبت أن فى البلاد ملامح إعلام مؤثر وساخن وله صدى.. عندما انتقل من سلك الكتابة الصحفية بقرائها المقننين إلى ميكروفون الشاشة الصغيرة بملايين المشاهدين لم يكن مجرد مذيع عادى بل شخصية جماهيرية شعبية لها سِحر خاص يجذب إليه الكافة وعلى رأسهم البسطاء الذين يتخذونه محاميهم وناصر قضاياهم ومنبرًا لشكواهم، وكان فقيد الشاشة والميكروفون والبيت والميدان والمصنع والغيط متميزًا عن رفاق جيله بالمرونة والدقة البالغة والإصرار بلا ملل على إبراز أدق التفاصيل الصغيرة، فهى النواة للأحداث الكبيرة وتأتى الحرائق المدمرة من مستصغر الشرر وكان يعتقد أن قيمة المذيع مرهونة بقيمة ما يُقدمه لهذا المجال أو ذاك، ومن المؤكد أن اندماجه فى زخم مشاكل الحياة اليومية، وجرائم الانفلات السكانى، وبحركة الشارع المصرى، ووعيه بوجهات النظر المختلفة التى يستنفرها لتنطق حقيقة ما بداخلها ما جعل برنامجه بمثابة وثائق تفتح العيون على حقيقة ما يحدث فى دروب المجتمع الخفية وخلف الأبواب المغلقة!

وأنا كنت قلت أقوم الصبح أطلب نمرته لأجل أطمئن عليه.. أقول للابن حسين الشحات شدّة وتزول يا بطل وبمشيئة اللـه تسترد كامل عافيتك وترمى آثار المدعوقة الكورونا من وراء ضهرك وتقوم تقعد تمشى وترجع لنا بالسلامة صاغ سليم لتكمّل مسيرتك الخلاّقة فى إخراج الصفحات بفنون موهبتك المتفردة التى لمسناها فى مطبوعات الأهرام الفاخرة للمناسبات الهامة وإصدارات وزارة الثقافة والآثار ومجلة البيت ومجلة «فنون مصرية» التى يرأسها منير عامر الأستاذ ورائد مخاطبة القلب والوجدان.. النمرة قعدت تزن تزن تزن بلا رد..  وقلت يمكن وقد وربما.. ولا ممكن أبدًا خطر على بالى إن الهادئ الجميل العذب الدمث الفنان أمير الأمراء حسين الشحات قد غدا منذ ساعات.. منذ دقائق.. منذ ثوان.. قد أصبح بلا رد!!

وكمثل ما كان من الأول تركنى الثانى من غير تأهب للخبر الحزين الصحفى القدير.. محمد مطر.. من أوسع لى مكانًا لأقبل الحجر الأسود وأصلى ركعتين فى حِجر إسماعيل.. رحل دون أن يشعر برحيله أحد.. هل تراه قد رحل بالفعل؟!!.. رحل كالنسيم فى صمت وخشوع ورّقة بعدما عاصرناه بمثابة الطواف فى مسرحية نعمان عاشور «عائلة الدوغرى» يطوف لسنوات طويلة العالم العربى لينقل لنا عبر تحقيقاته وحواراته ما يجرى على أراضيه ومفهوم سياساته وعلاقاته ورئاساته وأدبياته ومذاهبه وسلالاته وآباره وأفكاره، وحقًا كان ابن مطر ذلك الصحفى الدوغرى الذى لا يقبل تفضلا ولا فضلا من أحد فرأسه برأس أكبر كبير، ومن شموخه واعتزازه بنفسه وقدرة قلمه فتحت له أبواب القصور ليلتقى الأمراء والسفراء والملوك فى أحاديث حصرية مبهرة خرج منها ومن الحياة جميعها بالذكرى العطرة لمن كان نظيف اليد والضمير مع مرتبة الشرف الأولى.. وتتداخل وجوه الأعزاء الراحلين بذكرياتهم الحميمة لأزداد شوقًا للموهوب الفنان المصوِّر محمد حجازى الذى أعطانا ثمرات جهده المتميز سنين فى تصوير الحال والجمال والمجال والمحال، ومن بعدها اصطفاه المرض طويلا طويلا ولم يزل فى شرخ الشباب وأوج العطاء لتأتى الجارحة بدورها وعنفوانها لتتصيد أصحاب الألم فى مقتل فتخطف من بيننا الغالى والفريد والنفيس والحريف الذى سجلت عدسته الواعية لقطات نادرة لنجيب  محفوظ احتضنتها جدران معرض كامل.. وكان يا هناه وسعادته وأمه داعية له من جلس يومًا أمام عدسة حجازى ليلتقط له صورة يوقِّع عليها باسمه ملك الأغلفة البلاتينية.. مع السلامة يا محمد..

و..نبكى على رحيل الأعزاء، فقد بكى الرسول صلى اللـه عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم فسأله عبدالرحمن بن عوف: «يا رسول اللـه ألم تنه عن البكاء؟»، فأجابه صلى اللـه عليه وسلم: «هذه الرحمة جعلها اللـه تعالى فى قلوبنا ومن لا يَرحم لا يُرحم، فإن القلب يخشع والعين تدمع، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضى اللـه: إنا للـه وإنا إليه راجعون».. الجزع لا يرد ميتًا ولا يطرد حزنًا فاصبر واحتسب، واللـهم رضينا بقضائك وصبرنا على بلائك فبشر الصابرين..

وبما أنى لم أمت ويبدو أننى لم أتمن الموت، فمازال حبى للمعرفة والكتابة والرسم طاغيًا، ومازلت أشعر بأننى أدور حول البوابات المغلقة أمام الفهم البشرى، وأنا أستجدى هذه المعرفة مثل شحات نجيب محفوظ، وعلى أى حال لم أفقد الأمل فى أننى فجأة وربما بدون سبب ظاهر قد أعثر بمفتاح يدخلنى إلى شىء ولو قليل من الفهم.. وحمدًا للـه لم يزل الكثير من الزملاء والأصدقاء على قيد الحياة رغم وطأة البلاء، يجاهدون من أجل حياة أفضل ومعرفة أوسع، ومهما اختلفت السبل فإننا نسعى إلى نفس الهدف.. وإذا ما سُئلت حول صمتى عن رثاء من سطور لبقية أعضاء وفد الرحيل فاعذرونى لشعورى بأننى قد أصبحت أحرِّك فيكم المواجع وأضايقكم بحكاياتى غير الناعمة رغم ما فى الجعبة لكل منهم من جبال بكائيات الرثاء.. ولكن.. رُفعت الأقلام وجفت الصحف.. ولم يبق سوى دعاء الابن البار.

* صحفية مصرية

** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيـــاة"

جميع الحقوق محفوظة لـ الحياة واشنطن © 2024

هاتف: 00961-81771671

البريد الإلكتروني: info@darhaya.com