المسكوت عنه في التاريخ.. ربط الحاضر الفلسطيني بماضيه

10:13 ص ,09 مارس 2022

عقب صدور كتابي، ستون عاما من الخداع: حركة "فتح" من مشروع الزعيم إلى مشروع التصفية، في أيلول/سبتمبر 2019 (صدرت طبعة ثانية مزيدة ومنقحة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي)، وجدت ضرورة ربط حاضر الوضع الفلسطيني تحت الاحتلال الصهيوني بماضيه تحت الاحتلال البريطاني، والأساليب التي استخدمها كلا الاحتلالين لقمع وتصفية ثورة الشعب الفلسطيني من أجل التحرير. حيث عمدت سلطات الاحتلالين إلى جانب استخدام قواتها العسكرية إلى استمالة فئات اجتماعية إلى جانبها، وتشكيل عصابات من الفلسطينيين المتساقطين للعمل ضد الحركة الوطنية الفلسطينية المسلحة. ولم يكن الأمر سهلا لأن غالبية المراجع في هذا الشأن كانت أجنبية: وثائق الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية التي تمثل عدو الشعب الفلسطيني بما يزخر أرشيفها وملفاتها برواياتها وسرديتها، وقد نقلتها كتب أجنبية. وكم كنت حريصاً على التدقيق العقلاني فيها، إلا أن الأمر قد لا يخلو من الخطأ في التقدير وهو أمر أتركه للباحثين لتصويبه، إذ لا أحد يملك كامل المعرفة والحقيقة.

إن تناول ظاهرة الخيانة أو التعاون مع سلطات الاحتلال، سواء البريطاني أو الصهيوني ليس مسألة سهلة، بل هي كمن يسير في حقل ألغام  له محاذيره السياسية والاجتماعية والمعرفيةـ وأبرزها الحذر من التساوق مع "بروبوغاندا" الأنظمة العربية القائلة إنّ الفلسطينيّين باعوا أرضهم وتعاونوا مع محتلّيهم، للتغطية على فشل تلك الأنظمة في مواجهة الاستعمارين البريطاني، ومن ثم الصهيوني حيناً وتآمرها على القضية الفلسطينية في أحيان كثيرةٍ، خصوصاً وأن العديد منها يهرول باتجاه إقامة علاقات دبلوماسية مع كيان الاحتلال الصهيوني واحتضان رموزه. وليس من السهل على الفلسطينيّ الذي اعتاد على رؤية ذاته ضحيةً لتواطؤ العرب مع العدوّ الصهيوني ضدّه، أن يُخضع ذاته للبحث من زاوية تواطؤ بعض أبناء جلدته ضدّه. ومع كلّ ذلك، لا يُمكن لشعبٍ حيٍّ قاتل ويقاتل منذ أكثر من مئة عامٍ بشجاعةٍ وعناد ألّا ينظر بذات الشجاعة إلى تاريخه وراهنه وأسباب فشله في تحقيق هدف التحرّر الوطني إلى الآن.

كما حرصت لدى تناولي عمليات بيع الأراضي إلى اليهود الصهيونيين التأكيد على أن المبيوعات الكبيرة قامت بها عائلات من خارج فلسطين كانت حصلت من خلال منظومة الفساد التي انتشرت في الدولة العثمانية في عقودها الأخيرة، على مساحات واسعة من أراضي فلسطين، ولا يربط تلك العائلات بفلسطين سوى الحصول على عوائد مالية يساعدها على العيش برغد وبذخ خارج فلسطين، فاستسهلت بيع الأراضي بأسعار مغرية وتسببت في تشريد فلاحي تلك الاراضي.

لقد كان الفلاح الفلسطيني ملتصقا بأرضه التصاق الحجر والشجر، لذلك ما كان له أن يبيع بعض أرضه إلا اضطرارا بسبب ظروف التفقير والتجويع التي فرضتها سلطات الاحتلال البريطاني عليه.  لقد آذى التشهير الفلسطينيين أكثر مما آذاهم الفقر، وأكثر الاتهامات إيلاما الاتهام بأنهم باعوا أرضهم، أو أنهم هربوا بجبن. وقد أدى الافتقار إلى تأريخ عربي صحيح لعملية اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم التي مارستها العصابات الصهيونية المسلحة بدعم من الاحتلال البريطاني، إلى جهل الجمهور العربي بما حدث فعلا. 

إن هذا الكتاب ليس تأريخا للثورة العربية الفلسطينية الكبرى في فلسطين التي مرت في مرحلتين الأولى، مرحلة الإضراب العام في نيسان/إبريل 1936 والذي تخللته عمليات عسكرية للثوار العرب الفلسطينيين ضد قوات الاحتلال البريطاني، وتوقفت بقرار من اللجنة العربية العليا بوقف الثورة استجابة إلى وساطة زعماء الأنظمة العربية التابعة لبريطانيا في ذلك الحين في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه. أما المرحلة الثانية فقد مثلت استئنافًا لثورة نيسان/إبريل 1936 لتنفجر كفاحا مسلحا في أيلول/سبتمبر 1937 إثر إصدار لجنة بيل الملكية البريطانية توصياتها بتقسيم فلسطين.

لقد وثق الكتاب بشكل تفصيلي تطورات القضية الفلسطينية في فترة الانتداب البريطاني بشكل يساعد القارئ على فهم ما حدث في فلسطين الوسطى والجنوبية (الضفة الغربية وقطاع غزة) منذ احتلالهما في العام 1967، كحلقة من حلقات المشروع الصهيوني الذي لم يغير أو يبدل من أهدافه أو وسائله منذ نشأته قبل أكثر من قرن وحتى يومنا الحاضر. 

يوضح الكتاب كيف قاوم الفلسطينيون والعرب الأخرون وعد بلفور، ومن ثم كيف قاوموا قيام الكيان الصهيوني على الشكل الذي صاغه بيان تأسيسه، وكيف قاوموا وعود ومشاريع التسوية المضللة المتجددة سنة بعد أخرى.

بالطبع قاوم عرب فلسطين الإنتداب البريطاني وسياساته الهادفة لتطبيق وعد بلفور. وتكللت تلك المقاومة بالثورة الفلسطينية الكبرى في عام 1936، فقد برهنت ثورة 1936 على تمسك الشعب الفلسطيني بحقه في وطنه واستعداده للتضحية لأبعد الحدود من أجل التمسك بذلك الحق. لكن، كانت هناك نقاط ضعف حالت دون نجاح تلك الثورة.  ولم

لم تستطع "اللجنة العربية العليا" بزعامة الحاج أمين الحسيني التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية الاستمرار بالثورة (في مرحلتها الأولى)، قد استجابت لنداء "الملوك والرؤساء العرب " في تشرين الأول/أكتوبر 1936 بإيقاف الثورة والوثوق "بوعود بريطانيا الصديقة"، لكنها في الوقت نفسه لم تعترف إطلاقاً بأي حق لليهود بوطن قومي في فلسطين. وعلى الرغم من فشلها إلا أنها لم تكن أبداً قيادة مفرطة أو متواطئة ضد حقوق الشعب الفلسطيني.

في بيانه الذي أعلنه الحاج أمين الحسيني باسم الثوار في 30 أيار/مايو 1939 رفضه للكتاب الأبيض الذي يدعو إلى تقسيم فلسطين اختتمه بهذه العبارة "إن الأمم الحية لا يكون القول الفصل في حياتها ومستقبلها والقرار الأخير في مصير أوطانها وذراريها للكتب البيض أو السود، إنما القول الفصل والقرار لإرادة الأمة نفسها، وقد أعلنت الأمة العربية إرادتها وقالت كلمتها داوية وجازمة، وستصل إلى ما تريد بعون الله، ستستقل فلسطين ضمن الوحدة العربية، وستبقى عربية إلى الأبد."

لكن من خلفه في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية فقد استسهلوا التنازل عن الحق الفلسطيني لقاء زعامة مؤقتة ثمنها القيام بدور شرطي الحدود لحماية أمن الكيان الصهيوني. كان هاجس ياسر عرفات منذ تسلمه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن "لا يخرج من المولد بلا حمص" كما خرج الحاج أمين الحسيني والشقيري،  وأخذ يردد:” إذا كان هناك ما لا أريد أن أكونه، فهو الحاج أمين. لقد كان على حق في كل شيء، غير أنه انتهى بدون أي شيء، أي شيء، لا أريد أن أكون هكذا"

لن يجد أحد في كتب التاريخ من يصف الحاج أمين الحسيني بالخيانة، لكن هناك الكثير ممن يستخدمون هذا الوصف في الحديث عن جماعة أوسلو.

إن هذا الكتاب رغم تناوله جزءا من تاريخ ثورة 1936-1939 إلا أنه معد لكشف جانب من التاريخ الأسود لعملاء بعضهم تساقط من الثورة وبعضهم مرتبط بالأساس مع بريطانيا وحكم أمير شرق الأردن آنذاك، المرتبط هو أيضا ببريطانيا، اطلقت عليهم سلطة الاحتلال البريطاني اسم "فصائل السلام"، دربتهم ومولتهم وسلحتهم، وساعد في ذلك الحركة الصهيونية، وقاموا بدور أقرب إلى الكلب البوليسي في كشف مواقع الثوار لقوات الاحتلال البريطاني وأيضا القيام بأعمال قتل وسجن للثوار، وتشريد عوائلهم وسرقة ممتلكاتهم، وبث الإشاعات لتشويه صورة الثورة والثوار في أعين الناس البسطاء. لقد ساهموا بقدر أو بآخر في إلحاق الهزيمة بالثورة الكبرى، ولم يزل بعض أحفادهم يفتقدون المناعة الوطنية في الوقت الراهن وأحدهم ولاه محمود عباس منصب رئيس حكومة سلطة الوكيل الأمني للإحتلال الصهيوني.

قصة "فصائل السلام" في فلسطين و تغيير شكلها و الإخفاء و التمويه وتناسلها باشكال أخرى ليس إلا جزءا من القصة الأوسع للقمع الاستعماري و التسوية و المقاومة. وتعد "فصائل السلام" وما يشبهها مجرد أمثلة مبكرة لما قامت به القوى الاستعمارية وخاصة بريطانيا وفرنسا، فيما يعرف بـ "العمليات السرية "التي قامت بها قوات الاستعمار الفرنسي في الخمسينيات في الجزائر ضد الثورة الجزائرية وشعبها، بتشكيلها عصابات عميلة من الجزائريين الذين عرفوا بـ"الحركيين" و للعمليات البريطانية في ماليزيا و كينيا و شمال إيرلندة حيث تحولت قبائل السكان الأصليين في ماليزيا إلى ثوار, وحيث تم في كينيا "تسويد" الفرق البيضاء وعناصر حراس الوطن من قبائل الكيكويو الموالين للمستعمر البريطاني وتجنيدهم لجمع المعلومات و محاربة الثوار. (تعتبر فصائل السلام , في حقيقة الأمر, متشابهة في الشكل والوظيفة لحراس الوطن الكيكويو في كينيا). أما في روديسيا، وفي خضم معركتها ضد الثوار السود، أنشأت ميليشيا زائفة منفصلة في العام 1973،عرفت باسم كشافة سيلوس، وهي قوة مختلطة من الجنود البيض والسود حيث كان البيض يقومون بتلوين وجوههم باللون الأسود بصورة غريبة ,وبالتالي "تحولت" وحدة الجنود الروديسيين السود الموالين للحكومة إلى (رجال عصابات سود) أما الولايات المتحدة بعد احتلالها للعراق في عام 2003 ولمواجهة المقاومة، قامت باستمالة عناصر عراقية مولتها وسلحتها اسمتها "الصحوات" التي كان أبرز قادتها عبد الستار بوريشة.

       هذا الكتاب يتناول المسكوت عنه في التاريخ الفلسطيني، والذي يتجنب الكثيرون فتح ملفاته لأنه ما زال يتناسل بفعل وجود الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وأبرز صوره كان في روابط القرى، أما الأكثر بشاعة فهو دور سلطة الحكم الذاتي التي تشكلت من متساقطي الثورة المعاصرة التي ادعوا أنهم فجروها لتحرير فلسطين فإذا بها تتحول تدريجيا لتصبح ورجالها سلطة وكيل أمني للإحتلال الصهيوني تنفيذا لاتفاقيات أوسلو، التي بفضلها جرى استقدامهم من المنافي للقيام بدور "فصائل السلام" الحديثة وروابط المدن، في صورة ما سموه "التنسيق الأمني" وهو مصطلح مضلل إذ أن التنسيق الأمني يقوم بين أنداد وأطراف متساوية وهو ما لا يتوفر في وضعية السلطة وكيان الاحتلال الصهيوني، الذي يملي على السلطة ما يتوجب أن تفعله طبقا لاتفاقيات أوسلو،... وإذا كان البعض يتجنب إطلاق صفة الجواسيس والخونة عليهم فهم على الأقل متعاملون ومتعاونون مع الاحتلال.. لذلك يجب أن لا نتوارى خلف كلمات منمقة بل أن نذكر طبيعة عملهم... عملاء باختيارهم وإن تشدقت أفواههم أحيانا بالجمل الثورية والتغني بماضيهم.

خلال ثورة 1936-1939 شكل قادتها محاكم خاصة لمحاكمة الجواسيس والسماسرة العرب،  اصدرت أحكاما بالإعدام ونفذته في كثيرين منهم، لكن الجواسيس والسماسرة والعملاء التزاما من عصابة الوكيل الأمني للإحتلال في رام الله يسرحون ويمرحون لأن الكيان الصهيوني نص في اتفاقيات أوسلو على حمايتهم وعدم المساس بهم، وشعار هؤلاء العملاء أن لا أحد يزايد على أحد فالجميع في خدمة الاحتلال.

* صحفي وكاتب فلسطيني

** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيــــاة"

 

 

 

أخبار ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة لـ الحياة واشنطن © 2024

هاتف: 00961-81771671

البريد الإلكتروني: info@darhaya.com