"غزلتها " بنفس الدأب والقدرة على الغوص في التفاصيل والدقة التي تتعامل بها مع قطعها الفنية، فاذا بنا امام نوع من "التأريخ" الجاد والصادق، لما كاد ان يفلت من بين أصابعنا او ما قارب على الاندثار لحرف ومناطق وشخصيات واحياء وتقاليد مهن ومدن، كل ذلك بالتوازي مع سيرة انسانية لمكابدة "اصطياد الحلم "، او الاحلام التي لا تنتهي، وهذا ما عنونت به عزة فهمي كتابها " مذكرات عزة فهمي.. احلام لا تنتهي ". من اي زاوية تختارها سوف يستغرقك" مشوار عزه"، لأنك سرعان ما سوف تكتشف أنك ازاء خطين متوازيين، سرعان ما توحدا في مشوار هذه المبدعة، سيرتها التي ناطحت فيها الظروف وسيرة الوطن نفسه موزعة ومتخللة في كل مسام هذا العمل الممتع والمحفز. اختارت عزة فهمي نوعا من الحكي الذي يشعر قارئها بالألفة، لم تفتعل لغة ولا اسلوبا، لكنها تسامرت مع المتلقي كما تفعل في حياتها وعملها، بلغتها اليومية " العامية " الني اغتنت ببلاغة الصدق.. تأتي هذه السيرة الملهمة فعلا ، في لحظة نحن احوج ما نكون فيها الي " المعني " الذي يجعل الطريق الي تحقيق الحلم غير مشروط الا بوضوح الهدف ثم الاصرار مهما كان الطريق وعرا ، و في هذا السياق السيرة متخمة بتفاصيل حقيقية ... هذه السيدة التي تحتل صورها مجلات "فوربس" المعنية بنجاح اصحاب الاعمال و التي تطوق قطعها اعناق و اذرع اثري اثرياء المشاهير، والتي صار اسمها وحده ضمانا للإبداع الراقي الواثق الهاضم للتاريخ ، هذه السيدة كانت في وقت من الاوقات ، ترتق جواربها لتجعلها صالحة لأطول فترة ، و تختار ان تقطع المسافة سيرا علي الاقدام ، من مكان وظيفتها الاولي في هيئة الاستعلامات بميدان التحرير الي خان الخليلي والصاغة ، حتي تتمكن من شراء " سندوتش" يحتوي علي بيضة مسلوقة يسد الجوع ... تشبه عزة فهمي في سبيكتها الانسانية " الشغل الشفتشي" في الذهب .. منمات يتم تحويل خامة الذهب بالصهر، الى خيوط، تتحول الخيوط الي غزل شديد الرهافة والدقة، منه تتشكل الزهور والنجوم الأهلة والشموس، في الكردان والحلق ... وهكذا كانت حياة عزة فهمي وضفيرة جذورها المصرية السودانية التركية ...موظفة هيئة الاستعلامات بعد دراسة الديكور في كلية الفنون الجميلة التي أرجحتها الحياة ما بين "رغد الحياة وهدهداتها " في كنف اب ميسور، الموظف الكبير في شركة انجليزية للأقطار، وطفولة وصبا كالحلم ثم شظف و "كد وشظف نفس الحياة "بعد رحيله والانتقال الي حلوان. سوف تدهشك الذاكرة السمعية البصرية التي تنقلك بها عزة فهمي الي ثنايا حياتها فتعرف وتشم وتستنشق سوهاج وبهجة السنوات الامنة وشخصية الاب الشديد المصرية وثراء تجربته الحياتية والمعرفية التي سوف تتسرب الي مسام عزة، لتصبح رافدا اساسيا في مجمل تجربتها. عزة "ذاكرة متحركة " وحكيها مرئي، مسموع لكنها ايضا ارشيف متحرك، لا يترك شاردة ولا واردة بغير وثيقة، والوثيقة قد تكون صورة، خطاب، هامش من كتاب، رسم.. إيصالا ، تذكرة اعلانا ، و بمناسبة الاعلانات يحوي الكتاب مجموعة نادرة من الاعلانات المصورة من اول باتا و الصابون النابلسي و حتي زجاجات اللبن المبستر الذي كانت تنتجه شركة مصر للألبان وسعر الزجاجة ثلاثة قروش ، صفحة من الوقائع المصرية ( عندما اردت ان تعرفنا علي عمل ابيها ، موظف شركة الأقطان الانجليزية ، قدمت شرحا لمعني حلج القطن ، جاءت به من مخطوط بدائع الصنائع في تركيب الشرائع ، للعالم علاء الدين الكسانيالمتوفي587 هجريا مع خريطة لمحالة القطن في مصر ، و ألحقت ايضا صفحة من الوقائع المصرية بتاريخ ١٧ مايو ١٨٨١ العدد ١١١٤ من " قلم الزراعة ، عن زراعة القطن ، دون ان يفوتها صور توضح انواع القطن من الاشموني و جيزة ٤٥ وغيرهما . وافيا المهم انك طوال الوقت و علي طول الصفحات التي يقرب عددها من الأربعمائة صفحة، تنصت و تري فيلما روائيا، و وثائقية، و اقعيا و حالما في نفس الوقت... يحرضك الكتاب علي الاستغراق في تفاصيله التي رغم السنوات، تبدو شهية، مغرية علي الالتهام طازة بنار الفرن "، لم تبهت اي تفصيله حياتية في رحلة حياة عزة من اول مما يجعل مهمة الاختزال والاختيار لما تقدمه للقارئ، مهمة ليست يسيرة.
* صحفية مصرية
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيـــــاة"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com