إن هذه المعادلة تعني استمرار معاناة الأسرى إلى أجل غير معلوم، فهناك ما بين ٧٥٠ ألف فلسطيني إلى حوالى مليون ذاقوا مرارة الأسر في سجون الاحتلال منذ عام ١٩٦٧، استشهد منهم داخل السجن ٢٢٦ أسيراً. واليوم هناك ٥٤٣ أسيراً يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد، على الأقل لمرة واحدة، فعبد الله البرغوثي على سبيل المثال محكوم بـ ٦٧ مؤبداً. كما أن هناك ٣٤ أسيراً قضى في الأسر أكثر من ربع قرن، منهم ١٣ أسيراً تخطت سنواتهم خلف قضبان السجن ثلاثة عقود، اذ يلقب كريم يونس البالغ من العمر ٦٢ عاماً بعميد الأسرى، لأنه أمضى في الأسر أكثر من ٣٨عاماً. انطلاقاً من ضرورة الخروج بمقاربة لوقف معاناة الأسرى قدر الإمكان، لأنها في الواقع معضلة باقية بقاء الاحتلال، واسترشاداً بالتجربة الفلسطينية الطويلة في التعامل مع المحتل في إطار ملف الأسرى، يتضح أن اتباع استراتيجية تعتمد على الضغط وحصار الاحتلال، تجعل الموقف الفلسطيني أكثر قوة، وتمنح الأسرى فرصاً أفضل لتحسين ظروف أسرهم أو تحررهم. فما بين إضراب الأسرى عن الطعام من جهة، واتفاقات لتبادل الأسرى من جهة أخرى، حقق الفلسطينيون إنجازات ملموسة، على عكس مبادرات حسن النوايا التي تركت لأهواء المحتل ولم تُؤتِ أكلها كما أثبتت التجارب. ومن هنا نحن بحاجة إلى مزيد من آليات المواجهة والتصدي للاحتلال، والتركيز على أن يكون الأسرى الأشد تضرراً على رأس قوائم المحررين بغض النظر عن انتمائهم الحزبي.
إنه احتلال حتى وإن أنكرته إسرائيل، فمنذ عام ١٩٦٧ لم تقر اسرائيل باحتلالها للاراضي الفلسطينية، متذرعة في البداية بأنها تسيطر على أراضي لا سيادة لها، لأنها لم تكن تتبع لدولة محددة، وبعد توقيع اتفاق أوسلو ادعت أن الأراضي الفلسطينية متنازع عليها. ورفضت إسرائيل انطلاقاً من مقاربتها السابقة تطبيق قواعد اتفاقيات جنيف التي تنظم علاقة سلطات الاحتلال بالسكان المدنيين، وسعت لفرض سيادتها بدلاً من ذلك من خلال إصدارها للأوامر العسكرية وإبقاء التعامل بها في الأراضي المحتلة رغم قيام السلطة، وضم القدس وأخضعتها لقانونها المدني، والذي فرضته بعد ذلك على مستوطنات الضفة الغربية. إن إنكار إسرائيل لاحتلالها ومحاولة فرض سيادتها على الأراضي المحتلة لا يغير من الواقع القانوني لهذه الأراضي، والذي تؤكد عليه قرارات الشرعية الدولية قبل توقيع اتفاق أوسلو وبعده، إذ على الرغم من سيطرة الاحتلال على إقليم ما، فإن السيادة عليه لا تنتقل للسلطة المحتلة ولا تفقد الدولة المحتلة سيادتها، وحتى وإن أنكرت إسرائيل وجود دولة فلسطينية، لأن السيادة في هذه الحالة تنتقل للشعب المحتل، انطلاقاً من المبدأ الأساسي الخاص بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
والحقيقة أن فلسطين موجودة، قبل أن تنشأ دولة إسرائيل، والوثائق الرسمية التاريخية سواء العثمانية أو حتى البريطانية شاهدة على ذلك. ومن الصعب الاعتماد على قرار ١٨١ العام ١٩٤٧ ومخرجاته لإثبات شرعية إسرائيل وعدم شرعية فلسطين، لأنه في الأساس قرار صادر عن الجمعية العامة أي غير ملزم، وجُل من صوّت عليه من الدول الاستعمارية، عندما كانت غالبية الدول ترزح تحت الاستعمار، ودون أن تمتلك سواء الدول الاستعمارية أو الأمم المتحدة الحق في البت في مصير أرض لا تعود لها، وشعب من حقه أن يقرر مصيره. كما أنه وبعد حصول فلسطين على صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة عام ٢٠١٢، وحصولها على عضوية المحكمة الجنائية الدولية بناء على ذلك المعطى، تصبح فلسطين ضمن الظروف التي تعيشها، من عمليات سيطرة وإخضاع وحصار بالقوة، دولة تحت الاحتلال ضمن كل المعطيات القانونية.
مقاومة المحتل، شرعتها الأديان السماوية قبل أن تجيزها القوانين الوضعية، فمقاومة الاحتلال الإسرائيلي واجب ديني ووطني لن تتوقف الا بخروج الاحتلال تماماً من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وينبثق مبدأ حق مقاومة الاحتلال والغزو الأجنبي، أساساً من مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير والاستقلال الوطني. وأكد ميثاق الأمم المتحدة والعهدان الدوليان لحقوق الإنسان والعشرات من قرارات الجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية، على حق الشعوب في تقرير المصير، والتحرر من السيطرة الأجنبية، باستخدام كل ما في متناولها من وسائل. وتقر المادة السابعة من تعريف العدوان الوارد ضمن قرار الجمعية العامة، رقم ٣٣١٤ الصادر عام١٩٧٤، بشرعية نضال الشعوب، ولا يعتبره عملاً عدوانياً. كما تنص المادة ٤٥ من لائحة الحرب البرية المرفقة باتفاقية لاهاي لسنة ١٩٠٧ على أنه "لا يجوز إجبار السكان على أداء قسم الولاء للسلطة المعادية".
وضعت الشرعية الدولية إطاراً دولياً حامياً للمناضلين من أجل الحرية والاستقلال من الاحتلال والهيمنة الأجنبية، فقد اعتبر العرف الدولي، منذ القرن التاسع عشر، أن القوات الشعبية المتطوعة لمواجهة الأعداء، حركات مقاومة شعبية منظمة وأفرادها بحكم المحاربين ولهم حقوق محددة عند الأسر. وأعطت المادة الثانية من لائحة الحرب البرية الملحقة باتفاقية لاهاي لعام ١٩٠٧ صفة المحاربين، للسكان المدنيين الذين يقاومون المعتدي دون أن يكون لهم الوقت في تنظيم صفوفهم، وعلى ذلك الأساس أكدت الجمعية العامة في قرارات عدة على وجوب معاملة نشطاء حركات المقاومة كأسرى حرب عند اعتقالهم. وتم الإقرار بشرعية حركات التحرر والمقاومة ضد الاستعمار او الاحتلال في اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة لعام ١٩٤٩ والبروتوكولين الإضافيين لاتفاقات جنيف لعام ١٩٧٧، حيث ساوت المادة ٣٤ من البروتوكول الإضافي الأول بين قوات منظمات التحرير والقوات المسلحة التابعة للدول.
يحظى أسرى الحرية الفلسطينيون بمعاملة خاصة في القانون الدولي، وتم تحديد معايير التعامل معهم، في قواعد قانونية محددة تتحداها إسرائيل، وترفض معاملة الأسرى الفلسطينيين ضمن نطاقها. وتظهر تلك القواعد في لائحة لاهاي الملحقة بالاتفاقية الرابعة لسنة ١٩٠٧، واتفاقية جنيف الثانية لعام ١٩٢٩ لتحسين حالة أسرى الحرب، واتفاقية جنيف الثالثة لعام ١٩٤٨، والبروتوكول الإضافي الأول والثاني لعام ١٩٧٧ الملحقين باتفاقيات جنيف الأربعة. ويتبنى القانون الدولي الإنساني الفكرة الأساس عن الأسر، باعتبار أن الأسر ليس عقوبة ولكنه إجراء وقائي، وأن الأسير ضحية من ضحايا الحرب، لذلك لا يجوز محاكمته الا في إطار عادل، ويجب الإفراج عنه بشكل فوري بعد انتهاء الأعمال العدائية. ولا يجيز القانون قتله ويوجب احترامه ومعاملته بإنسانية، وتقديم الرعاية الطبية له عند الحاجة، وعدم جواز تعذيبه بدنياً أو معنوياً، أو إكراهه أو تهديده للحصول على معلومات منه، وهو ما لا تلتزم به إسرائيل في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين، ويفتح المجال لاستخدامه فلسطينياً لفتح جبهة مواجهة إعلامية وقانونية وسياسية واسعة في الأروقة الدولية.
وعلى ما يبدو أن المبادرات الفلسطينية السياسية لتحرير الأسرى بعد توقيع اتفاق أوسلو لم تحقق ما هو مرجو منها تماماً، لتخفف من عناء الأسرى خصوصاً الذين قضوا سنوات طويلة في الأسر أو من حكم منهم بأحكام عالية. ويظهر ذلك في اتفاقيات وتفاهمات السلطة الفلسطينية في إطار اتفاق القاهرة عام ١٩٩٤ وطابا عام ١٩٩٥ ومذكرة واي ريفر عام ١٩٩٨ واستئناف المفاوضات عام ٢٠١٣، والتي نجحت بالفعل بإطلاق سراح الآلاف من الأسرى، لكن ضمن معطيات حددتها سلطات الاحتلال، وفي ظل اعتقال الاحتلال مئات الفلسطينيين بشكل يومي. ومعظم من أطلق سراحهم في تلك الاتفاقات والتفاهمات من ذوي الأحكام المخففة، أو من اقتربت مدة حكمهم على الانتهاء، وممن لا تصنفهم إسرائيل "ذوي الأيدي الملطخة بالدماء"، وليسوا أيضاً من مواطني القدس أو أراضي الـ ٤٨. في المقابل وعلى الرغم من نجاح مبادرات تبادل الأسرى، التي جرت عامي ٢٠٠٤ و٢٠١١، ما بين حركة حزب الله و"حماس" على التوالي من جهة وبين إسرائيل من جهةٍ أخرى، في اختراق المعطيات جميعا التي وضعتها سلطات الاحتلال في مبادرات السلطة الفلسطينية، الا أن الاحتلال قوض ذلك الإنجاز من خلال إعادة أسر من تحرر مرة أخرى ودون سبب معروف، وهو ما يعرف بسياسة الباب الدوار.
لن تنتهي المبادرات السياسية لتحرير الأسرى، لكن يجب الوضع بعين الاعتبار أن القوة والضغط على إسرائيل يحرزان نتائج أفضل في عملية التفاوض، كما أنه يجب البحث عن البدائل التي تقوض سياسة الباب الدوار، كإجبار إسرائيل على تعهدات مثلاً. أخيراً، نجح الأسرى الفلسطينيون بالضغط على عدوهم من خلال الإضراب عن الطعام تارةً وإثارة الاضطرابات داخل السجون تارة أخرى، وتمكنوا بالفعل من إحراز نتائج إيجابية.
ومن خلال العمل التكاملي على جميع المستويات السياسية والقانونية، ومن داخل السجن وخارجه، وبين جميع الأطياف الفلسطينية، ستكون القدرة على المواجهة في أفضل حالاتها.
* أكاديمية وكاتبة فلسطينية
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحياة"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com