من منا لا يحب فلسطين، من منا يستطيع مقاومة تعلقه بتلك البقعة المباركة، فهى ليست ككل الأماكن، وجودها بدأ مع الوجود ذاته، حدودها ليست وليدة الصدفة، أو نتيجة فعل البشر، أو لأسباب سياسية، حباها الله بالكثير والكثير، وفضلها على كثير من البقع، فهى أرض الأنبياء.
مأساة تاريخية
فلسطين أعقد قضية مرت على العالم الحديث، وشعبها تعرض لظلم لم يتعرض له أى من شعوب العالم على مدى التاريخ، انتهى زمن الاستعمار التقليدى من العالم، وبقيت إسرائيل، وخرجت فرنسا من الجزائر، وكانت احد نماذج الاستعمار الاستيطانى، وبقيت إسرائيل، ونجت جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصرى، ولكن الشعب الفلسطينى مازال يعانى منه٠
خلال مسيرة تعاملى مع القضية الفلسطينية، شاركت الفلسطينيين أفراحهم وانكساراتهم، وللأسف كانت البداية مع يوم حزين،ففى عام ١٩٨٢ ومع سقوط العاصمة العربية الثانية بيروت، فى محاولة لإنهاء وجود المقاومة الفلسطينية، تمنيت كإنسان أولًا وصحفى ثانيا، لو شاركت بأى صورة فى دعم المقاومة الفلسطينية، ووقف المؤامرة التى تعرضت لها منظمة التحرير الفلسطينية، وشاركت فيها أطراف لبنانية وقوى دولية، وأثمرت فى نهاية الأمر عن خروج عرفات من بيروت، ولكنه لم تمر سوى شهور حتى عاد الى مدينة طرابلس الغرب فى شمال لبنان، وبعد مخطط استهدافه وقواته من جديد، حيث اجبر على الخروج مرة ثانية ونهائية، ودخلت مصر على خط حماية عرفات وقواته اثناء وجودها فى المياه الدولية فى البحر المتوسط.
الحوار الأول
ومثلت تلك المناسبة بداية علاقة مع الزعيم الشهيد ياسر عرفات، عنوان القضية، واستمرت حتى استشهاده، حيث التقيته مرات بصفة منفردة، أو مع مجموعة، في القاهرة وتونس والجزائر، وفى غزة ورام الله ناهيك عن حوارات مع قادة وكبار مسئولين فلسطينيين، وكان اللقاء الثاني لي مع أبو عمار فى القاهرة فى نوفمبر ١٩٨٥ بعد أزمة اختطاف عناصر من جبهة التحرير الشعبية بزعامة أبو العباس للسفينة أكيلى لاورو ، وكانت من التنظيمات المعارضة لأبو عمار والموالين لسوريا، وقتلهم لراكب أمريكى مقعد، وإلقاء جثته في عرض البحر، حيث كنت برفقة أستاذي الكاتب الراحل محمد وجدى قنديل رئيس تحرير مجلة آخر ساعة فى ذلك الوقت.
وبعدها أصبحت لقاءاتي مع أبو عمار إما في غزة أو رام الله، الأولى كانت في يوليو ١٩٩٤، ، عدت الى غزة بعد حوالى ثلاث سنوات، وتحديدا فى ابريل ١٩٩٦ عندما تم عقد دورة استثنائية للمجلس الوطني الفلسطيني، لتعديل ميثاق منظمة التحرير، أما المرة الثالثة فكانت فى اغسطس ٢٠٠٠، قبل شهر من بدء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، يومها ذهبت الى رام الله لأول مرة، وكذلك الى القدس، أما الرابعة فقد كنت من الصحفيين القلائل الذين التقى بهم الزعيم الشهيد ياسر عرفات بعد محاصرته فى المقاطعة، مقر إقامته بعد اقتحامها من قبل القوات الاسرائيلية، والتي تمت فى يونيو ٢٠٠٢، وكانت المرة الأخيرة منذ اكثر من أربع سنوات، بدعوة من الرئيس محمود عباس، لحضور أعمال المؤتمر العام لحركة فتح في يونيو من ٢٠١٦ ٠
يوم مجيد
وسأتوقف عند ثلاث مناسبات، تمثل علامات فارقة، فى تاريخ القضية الفلسطينية، والتي كنت شاهدًا عليها، وتجسد إنجازات وانكسارات الشعب الفلسطيني، ١٥ نوفمبر ١٩٨٨ احد أيام فلسطين المجيدة، فهو يوم اعلان وثيقة استقلال فلسطين، وقد شاركت الفلسطينيين أفراحهم، عندما استضافت الجزائر العاصمة، دورة أعمال المجلس الوطني الفلسطيني الـ ١٩ فى قاعة قصر الصنبور، وهو الثاني بعد اعلان الاستقلال وإقامة حكومة عموم فلسطين فى غزة عام ١٩٤٨، الوثيقة التي حظيت بإجماع نادر من كل الفصائل الفلسطينية، واستقبلت فى جو احتفالي، وسط تصفيق كل الحاضرين وقوفًا، والدموع فى عيون الجميع، حيث عزفت فرقة موسيقى الجيش الجزائري نشيد دولة فلسطين، وخرج بعض الأعضاء من الشباب والسيدات ،يرقصون الرقصات الفلسطينية المعتادة، الوثيقة قطعة أدبية وسياسية، كتبها وقرأها الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، وتضمنت مقدمة تاريخية عن الظلم الذى تعرض له الشعب الفلسطيني، وثباته ونضاله، الذى دام لعقود حتى الانتفاضة الأولى ،وأعلن عن قيام دولة فلسطين «فوق ارضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس، استنادا الى الحق القانوني والطبيعي والتاريخي، واعتمادًا على قوة الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة والقمم العربية،» وكانت إيذانًا باعتراف دولى بالدولة الوليدة، ووقوف عرفات على منصة الأمم المتحدة.
ولعل محطة دخول الزعيم الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات الى أراضي السلطة الفلسطينية لأول مرة، فى الأول من يوليو ١٩٩٤ والتي عاد إليها بعد غياب قسري استمر ٢٧ عامًا، تمثل مناسبة أخرى ،سيتوقف عندها التاريخ الفلسطيني - وكنت شاهدا عليها – واستكمالا ليوم اعلان الاستقلال، حيث كنا ضمن وفد صحفي مصري بترتيب من القوات المسلحة المصرية، فى الركب الذى ضم الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك وأبو عمار، الذى ودعه حتى بوابة صلاح الدين المنفذ الحدودي بين مصر والقطاع، لتبدأ مرحلة جديدة، فقد عاد تحت سمع وبصر العالم كرئيس سلطة معترف بها دوليًا، بناء على اتفاق أوسلو.
الانقلاب على عرفات
وكانت أكثر اللقاءات درامية مع الشهيد أبو عمار فى منتصف أكتوبر ٢٠٠٢ ،بعد أشهر قليلة من اخطر أزمة شهدتها القضية الفلسطينية، عندما أعلن شارون استهدافه أبو عمار شخصيًا، وإقناعه للإدارة الأمريكية وبعض الجهات فى الإقليم، ان وجوده هو العقبة أمام تحقيق السلام واستقرار الأوضاع، واستمرت الاستفزازات الاسرائيلية منذ نهاية عام ٢٠٠١، إغلاق واقتحامات لمدن الضفة وحصار قطاع غزة خاصة مع تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية، فى القدس وتل ابيب، واستهداف أحد الوزراء الاسرائيليين، وتطورت الأمور بشكل غير مسبوق، ففى فجر ليلة ٢٩ مارس ٢٠٠٢، حاصرت إسرائيل مقر عرفات الشهير بالمقاطعة في قلب مدينة رام الله، وقطعوا الماء والكهرباء، كرد على اعلان القادة العرب عن مبادرتهم للسلام فى قمة بيروت، ووصل الجنود الاسرائيليون الى الغرف المجاورة لمكتبه، الذى يبيت فيه، ويدير به شئون الفلسطينيين، يومها خاطب أبو عمار العالم قائلا «إسرائيل تريدني سجينًا أو قتيلًا أو أسيرًا، وأقول لهم سأكون شهيدا شهيدا شهيدا».
وكان لقائي مع أبو عمار فى اكتوبر ٢٠٠٢ هو الأكثر اثارة والأشد حزنًا، فالوصول الى مكتبه فى المقاطعة فى رام الله كان مغامرة غير مأمونة العواقب، في ظل حظر التجول المفروض من القوات الإسرائيلية، خاصة بعد ان فشل مكتب نبيل أبو ردينة، فى توفير سيارة تحملني إليهم، فاعتمدت على سائق تاكسي فلسطيني، والذى رافقني طوال مدة إقامتي ووصل بى حتى السلالم المؤدية للمكتب، خاصة ان أسوار المقاطعة كانت مهدمة، وليس هناك أي حراسات، سوى عدد محدود من جنود الحرس الرئاسي، الفوضى فى كل مكان، الأحداث تركت بصماتها على الرجل، استمر الحوار من الثمانية مساءً حتى منتصف الليل، وحضره مع أبو عمار أربعة: نبيل أبو ردينة وتوفيق الطيراوي عضو اللجنة المركزية لفتح، وهو على اول قائمة المطلوبين من إسرائيل، وطبيبه الخاص أشرف الكردي.
بشاير النصر
أستطيع من خلال هذا التاريخ الصحفي، ان اقدم شهادتي، الدولة الفلسطينية ستقوم أبى من أبى وشاء من شاء، فوعد الله قادم، بنص القرآن الكريم فى سورة الإسراء تحديدًا، وبفعل الفلسطينيين الذين يتمسكون بحقهم فى الحياة، بتاريخهم، بتراثهم، ومنهم أبو جهاد خليل الوزير، الذى اغتالته إسرائيل فى تونس، نتيجة إشرافه على المقاومة الفلسطينية فى الداخل، وتنفيذ رجاله عملية اقترب فيها من مفاعل ديمونا، فكان الرد الإسرائيلي هو حياته أمام زوجته، وقد التقيته فى العاصمة العراقية بغداد، ومنهم ثالثًا الدكتور الشهيد الدكتور جمال الزبدة، الذى سالت دماؤه الطاهرة على ارض غزة، فى عملية سيف القدس الأخيرة، والذى تخرج فى جامعة فيرجينيا بالولايات المتحدة، وشارك فى برنامج تطوير اجنحة طائرات ال إف ١٦، اثناء تقديمه لرسالة الدكتوراه، حيث رفض كل العروض والامتيازات التي عرضت عليه، وعاد الى موطنه فى القطاع، ليقوم بدور محوري فى مجال الصواريخ والطائرات المسيرة.
نعكشة في الذاكرة
من جديد، يثبت الزميل المبدع سعيد الخولى بإصداره الثاني، من كتابه «نعكشه فى الذاكرة»، والذى جاء تحت عنوان «حكايات المتعة والعذاب» ،ان هناك ضرورة لرصد سيرة حياتك ويومياتها، حتى لو لم تكن من الزعماء أو السياسيين، كما اعتدنا من قبل، وهو يصفها فى مقدمة كتابه الثانى، « فضفضات واقعية كما عشتها ووعتها ذاكرتى»،فإذا كان الجزء الأول حمل يومياته فى قريته، فالثانى يبدأ من حياته الواسعة، بعد حصوله على الثانوية العامة، وخروجه الى عالم اوسع فى دراسته الجامعية، الى دنيا العمل بكل صراعاتها وانتصاراتها وانكساراتها، لم يحاول المبدع سعيد الخولى تجميل واقعه المعاش، بل قدمه لنا بكل صدق وشفافية، ولعلى هنا اؤكد ان اختياراته كانت صائبة بين أمرين العمل بمهنة الصحافة ويبدو انها لا تتلاءم مع طبيعة شخصيته، فهى وفقا لتوصيف عميد الصحافة المصرية مصطفى أمين، الذى عرف بفطنته صعوبة ممارسة سعيد الخولى لمهنة الصحافة، ووصفه بأنه «قنوع والصحافة تحتاج الى الطمع» ،وبين تحذيره أستاذه الدكتور الطاهر المكي، الذى نصحه بالبعد عن قسم التصحيح، باعتباره «مقبرة لمن يستقر فيها»، واطل على المهنة من باب التصحيح، الذى خلقت منه مبدعا، وكاتب مقال من الطراز الأول، مع قدرة على رصد التفاصيل البسيطة، بأسلوب ادبى رفيع، حيث تزاملنا معا لسنوات طويلة، سواء فى البدايات فى مجلة آخر ساعة، حتى استقر بنا الحال فى الأخبار.
* كاتب وصحفي مصري
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيـــاة" .
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com