سفه السؤال وسوء الحال

12:04 ص ,27 ديسمبر 2020

زينة وأشجار الكريسماس ظهرت في السعودية هذا العام. سنوات طويلة من المنع انتهت. وعقود طويلة من التحريم توقفت. الزملاء في السعودية يقولون إن هيئة الأمر بالمعروف -الشرطة الدينية- لم تعد تلاحق مَن يعرض هذه المظاهر الاحتفالية بغرض البيع أو الاحتفال. الهيئة نفسها تم تقييد صلاحياتها، وبدأ المجتمع السعودي ينفتح على العالم اجتماعياً وثقافياً. وقبلها، تم السماح للنساء بقيادة السيارات بعد مقاومة عنيفة استمرت سنوات طويلة. وتم افتتاح دور العرض السينمائية، وأصبح مسموحاً للنساء والشابات بحضور مباريات الكرة، بل إن الفتيات صرن يلعبن كرة القدم.

في تلك الأثناء، وعلى الجانب الآخر من البحر الأحمر، يمضى المجتمع المصري قدماً فى إخراج ما يموج به القاع منذ عقود. الأجيال الصغيرة التي تربت فى كنف النسخة المستوردة من الدين التي نبذها أصحابها كبرت وكوّنت عائلات وتمددت أعدادها بالملايين. وخرجت النبتة الجديدة لتخبرنا بأن وبال العقود الماضية من الركض نحو التزمت المظهري والانغلاق السطحي مع تدهور المحتوى السلوكي والأخلاقي لم يتوقف مع إنهاء حكم جماعة مجرمة اسمها الإخوان المسلمين فى عام 2013، بل إن الإناء ينضح بما فيه من خراب فكرى.

الأفكار التي يعتقد البعض أنها دينية، لكنها فى حقيقة الأمر ثقافية والتي صارت سائدة فى المجتمع المصري ليست حكراً على فئة قليلة، بل واقع الأمر يشير إلى انتشارها انتشاراً سرطانياً بفعل عقود «السبهللة السياسية». تُرِك الشارع والمدرسة والمستوصف والزاوية والجامعة وأنشطة المساجد الثقافية لناقلي الفكر الديني المستورد والذى وصل البيت المصري مع العباءة السوداء بالترتر والجلباب القصير والشبشب بصباع، وانفردت السلطة التى كانت حاكمة بما أرادت أن تنفرد به. وكانت النتيجة مسخاً ثقافياً كاملاً، وصبغة دينية أقرب ما تكون إلى مُكسبات الطعم واللون الصناعية الضارة، فأصبح مجتمعنا ما هو عليه اليوم. لا هو مصري أصيل، ولا هو مستورد تقفيل بلاده، ولِمَ لا وبلاده نفسها نبذت هذا الانغلاق والاصطناع؟!

اصطناع خروجنا من نفق «التديين» الذى ضربنا فى مقتل هو إصرار على مزيد من السقوط في الهاوية. إنهاء حكم الجماعة والتضييق على بعض الجماعات المؤيدة أو المتعاطفة معها لا يعنى بأي حال من الأحوال خروجنا من بالوعة تديين مظاهر الحياة. مصر حتى سبعينات القرن الماضي كانت مجتمعاً صالحاً. لم تكن كافرة أو مارقة أو فاسقة. ويوم تحدث الرئيس الراحل جمال عبدالناصر للمصريين وحكى لهم أن مرشد الإخوان حينئذ حسن الهضيبي قابله ليتحدثا عن كيفية التعاون، شرط أن تسير الجماعة فى الطريق السليم، وكان أول مطالب «الهضيبي» أن ترتدى النساء والفتيات الحجاب. قال «عبدالناصر» للمصريين: «أول شيء طلبه أن نقيم الحجاب فى مصر، ونخلّى كل واحدة تمشى فى الشارع تلبس طرحة. يا أستاذ أنت ليك بنت في كلية الطب مش لابسة طرحة ولا حاجة. ما لبّستهاش طرحة ليه؟ إذا كنت أنت مش قادر تلبس بنتك طرحة، عازوني أن أنزل ألبّس عشرة مليون طُرح فى البلد؟!».

وما يعنينا هنا ليس كلام «عبدالناصر» الذى عشقه المصريون والمصريات و«المسلمون والمسلمات» فى شتى بقاع الأرض. ما يعنينا هو رد فعل الحاضرين والحاضرات. لقد ضحكوا ملء أشداقهم. لم يستل أحدهم سكيناً ليطعنه لأنه يحارب الدين، أو يصدر أحدهم فتوى تعلن كفره لأنه يُلحق الضرر بالمتدينين.

المتدينون فى مصر فى عام 2020 ما زال بينهم مَن يرى أن عليه أن يتوجه إلى الشيخ ليسأله إن كان يسمح له بأن يقول لجاره غير المسلم «كيف حالك؟». وهم غارقون حتى الثمالة فى اعتبار مَن يضع شجرة عيد الميلاد ويزينها زينة مبهجة تدخل الفرحة إلى القلوب دون صراخ أو زعيق أو ضجيج أو تكفير أو دعاء على القردة والخنازير خارجاً على الملة ومسلماً منتقصاً.

غاية القول: ألم يحن الوقت لنخرج مما نحن فيه؟! ألم يحن الوقت لننظر فى مرآة جماعية تتسع لـ100 مليون مصري ومصرية ونرى ما آلت إليه أوضاعنا؟ لماذا لا نُخرج صور أجدادنا وجداتنا من الأدراج المغلقة وندقق النظر فيها؟ هل نحن خائفون مما سنصل إليه؟ كيف كان حال شوارعنا؟ وكيف كانت أخلاقنا؟ وكيف كان مظهرنا؟ وكيف كانت مسيرتنا نحو الغد وليس نحو العصور الوسطى؟

حتى اللغة التى كنا نتحدث بها كانت اللغة العربية بلهجة مصرية وقاموس مصري وليست لغة عربية هجينة فيها كلمات حلال وأخرى يعتبرها حاملو الصكوك الدينية حراماً.

وبينما العالم يتابع سلالات جديدة من فيروس قاتل، ومراكز الأبحاث تسابق الزمن للخروج باللقاحات وشركات الدواء والأمصال تصنعها، إذ نحن نسأل دار الإفتاء: وماذا لو كانت تركيبة اللقاح فيها مشتقات الخنزير؟ وماذا لو وصل اللقاح فى رمضان، هل يُفسد صوم الصائم؟ وهل يجوز استيراد اللقاحات من بلاد الكفر والإلحاد؟ وبالطبع لم نفوّت فرصة أعياد الميلاد ورأس السنة، فبدأ المتنطعون يسألون: هل شجرة الكريسماس حرام؟ وهل الاحتفال برأس السنة الميلادية مكروه؟ ولو كنت من المسئول لامتنعت عن الإجابة، لسفه السؤال واعترضت على سوء الحال.

 

* كاتبة وصحفية مصرية

** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحياة"

أخبار ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة لـ الحياة واشنطن © 2024

هاتف: 00961-81771671

البريد الإلكتروني: info@darhaya.com