ولأننا قوم نلبس رداء ولا نخلعه إلا بشق الأنفس، ونلزم أنفسنا بعهود الغير ومواثيقه، ولما يخلعها نثبتها، فقد آن الأوان أن نختار بين أمرين، إما أن نقلدهم ونسير على هديهم فيما يثبتونه وفيما يخلعونه، نأخذ عنهم ولا نعطى أحدا منه شيئا، ونخلع رداءهم ونرده لهم ردا جميلا، وإما أن نكون أحرارا نخلع من رقابنا ما يضر، ونثبت ما ينفع. ولقد َكنا نحلم يوما بتوثيق الطلاق لدى المأذون حتى نحسم واقعة الطلاق دون تلاعب أو تسويف أو كيد، وتستطيع المطلقة أن تبدأ رحلة المتاعب والشحططة، وتطالب بأبسط حقوقها في النفقة والمؤخر ومصاريف الأولاد، وهى رحلة لو تعلمون قاسية ومريرة وذل في دهاليز المحاكم، وإن وفقها الله وفرج الله كربها في المحاكم بعد سنين طوال، ضيقوها في التنفيذ وضاع الأولاد في سنين عجاف، إلا أن الأزهر الشريف ومشايخه رفضوا وقوع الطلاق بالإثبات فقط، وقالوا إن الطلاق الشفهي يقع، وجعلوا مسؤولية إثبات الطلاق على المطلق، دون إلزام ودون عقاب، وقد كانت المصلحة وسد الذرائع أولى بالاتباع، وليس نهج السلف، الذي ما صلح إلا لأوانه وزمانه، وأصبح عائقا وحائلا عن راحة الناس، ورغم أن المذهب الجعفري وكثيرا من الأئمة، وعلى رأسهم الإمام السيوطي والشيخ الألباني وأبو زهرة، قد أقروا تماما (أن الطلاق دون إثبات لا يقع)، وفى هذا يقول الشيخ الألباني: (إن الزواج بناء، والطلاق هدم، فلا يعقل أن نشهد الناس في البناء ولا نشهدهم في الهدم)، فإن مشايخنا، أطال الله لنا في أعمارهم، كانوا ومازالوا مع التضييق على الناس وليسوا مع التيسير أو التسهيل، إلى أن خرجت علينا السعودية بما هو أيسر على الناس، وما لم يحلموا به من الراحة والسكينة.
ولقد تجاوزنا المرحلة السابقة، (وهى مرحلة التوثيق) لدى المأذون، والتي كانت مرادنا من قبل، إلا أنها ليست كافية الآن، ولا تملأ فراغا ولا تسد رتقا، ولا تحقق أحلام بناتنا وأسرهن، فلنجعل بداية المشوار هو ما قررته المملكة، ألا يتم الطلاق ولا يعتمد إلا أمام القاضي، ولا يقع إلا أمامه، موثقا ثابتا مؤكدا، بعد أن يكون قد استوفى الحكم في كل البنود والعهود والالتزامات بين الطرفين، يفصل فيها نهائيا وباتا من نفقة ومؤخر ونفقة الأولاد والقائمة والرؤية وكل ما يلزم من أمور، وتلتزم الحكومة بتنفيذ الأحكام، وفى هذا نحتاج إلى شرح وتفصيل: الأحكام في بلادنا، تمشى على سطر وتترك الآخر، والكثير من أحكام النفقة تتوه، ويتضور الأولاد جوعا، والأب على مرمى أبصارهم ليل نهار، وربما يكون متزوجا من أخرى، ولديه منها أطفال، ينعمون جميعا في خيره، وهم جوعى، ولا يستدل على عنوانه بالسنوات، وفى هذا ليس لدينا حل من هذا التلاعب إلا بإلزام الدولة، ممثلة في وزارة التضامن الاجتماعى، بسداد النفقة كاملة شهريا بعد صدور الحكم إلى المطلقة وأولادها، وتتولى الوزارة بذاتها مسؤولية تحصيلها من المطلق، بغرامة في حالة تهربه، أو تعقبه في كافة أجهزة الدولة لحين سداد هذه المستحقات للوزارة، حتى نضمن حياة كريمة لهذه الأسر بعيدا عن ذل السؤال، وحفاظا عليها من الانهيار، مع مراعاة التزام المحكمة بالفصل في هذه الدعاوى كاملة في مدة أقصاها شهران، ولا تؤجل النفقة تحت دعاوى المعارضة أو الطعن.
ليس من العدل على الإطلاق أن يكون إثبات الطلاق دون توثيق، وليس من الرحمة أن نترك أولادنا دون نفقة يتضورون جوعا ومهانة، وليس من المروءة أن نترك بناتنا نهبا للفساد والمساومات الرديئة، وليس من العقل أن نكون أسرى لفقهاء وتفاسير وتراثيات لا تتفق مع مصالح الناس ومتطلبات حياتهم، وقد رأت المملكة، التي صدرت الدين للدنيا كلها، تعارض هذا الأمر مع المنطق والمنفعة، وهى في سبيلها إلى تغييره وإصلاحه، ومازلنا نصر هنا على الالتزام به والإبقاء على هذا القيد. رفقا يا سادة بالقوارير، هذا قرار سياسى فقط يحتاجه الناس اليوم وليس غدا.
* كاتب مصري وباحث فى تاريخ الجماعات الاسلامية عضو المجلس الأعلى للثقافة
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحياة"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com